للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ طَلَعَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ.

وَهَذَا عِنْدَنَا، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَكُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ مَعَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا وَمَنْ لَا فَلَا، فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَلَى الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، وَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ، وَالْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ، وَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ، وَالْمُسَافِرِ إذَا قَدِمَ مِصْرَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ تَشَبُّهًا يَجِبُ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ، وَالصَّوْمُ لَمْ يَجِبْ فَلَمْ يَجِبْ الْإِمْسَاكُ خَلَفًا وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ فَقَدِمَ بَعْدَ مَا أَكَلَ النَّاذِرُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ كَذَا هَهُنَا وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ «أَنَّهُ قَالَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ: إلَّا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ كَانَ فَرْضًا يَوْمئِذٍ، وَلِأَنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ وَقْتٌ شَرِيفٌ فَيَجِبُ تَعْظِيمُ هَذَا الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ تَعْظِيمِهِ بِتَحْقِيقِ الصَّوْمِ فِيهِ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ بِالتَّشَبُّهِ بِالصَّائِمِينَ قَضَاءً لِحَقِّهِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ إذَا كَانَ أَهْلًا لِلتَّشَبُّهِ وَنَفْيًا لِتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ، وَفِي حَقِّ هَذَا الْمَعْنَى الْوُجُوبُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَعَدَمُ الْوُجُوبِ سَوَاءٌ.

وَقَوْلُهُ التَّشَبُّهُ وَجَبَ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ مَمْنُوعٌ بَلْ يَجِبُ قَضَاءً لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لَا خَلَفًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ النَّذْرِ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ حَتَّى يَجِبَ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ.

وَأَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَالْكَلَامُ فِي قَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَصْلِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهِ، وَكَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ، أَمَّا أَصْلُ الْوُجُوبِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤] فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا أَنْ تُقْضَى لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَسَوَاءٌ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْمَعْذُورِ فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُقَصِّرِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى جَبْرِ الْفَائِتِ بَلْ حَاجَةُ غَيْرِ الْمَعْذُورِ أَشَدُّ.

وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ فَمِنْهَا الْقُدْرَةُ عَلَى الْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ وَلَمْ يَزَلْ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا حَتَّى مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ إنْ أَوْصَى بِأَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَيُطْعَمُ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْوُجُوبِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَذَا هَذَا فَإِنْ بَرِئَ الْمَرِيضُ أَوْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ وَأَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ بِقَدْرِ مَا فَاتَهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ مَا أَدْرَكَ، لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ لِزَوَالِ الْعُذْرِ، فَإِنْ لَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ وَهِيَ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ ثُمَّ عَجَزَ عَنْهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فَيَتَحَوَّلُ الْوُجُوبُ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الْفِدْيَةُ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ وَهُوَ شَدِيدُ الْمَرَضِ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَمَاتَ هَلْ يُقْضَى عَنْهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُطِيقَ الصِّيَامَ فَلَا يُقْضَى عَنْهُ، وَإِنْ مَاتَ وَهُوَ مَرِيضٌ وَقَدْ أَطَاقَ الصِّيَامَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ فَلْيُقْضَ عَنْهُ» .

وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقَضَاءُ بِالْفِدْيَةِ لَا بِالصَّوْمِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَصُومَنَّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» وَلِأَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ حَالَةَ الْحَيَاةِ لَا يَحْتَمِلُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ.

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ مُفَسَّرًا أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى أَوْ عَلَى النَّدْبِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَتَبَرَّعَ بِهِ الْوَرَثَةُ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعُوا لَمْ يَلْزَمْهُمْ، وَتَسْقُطُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَلْزَمُهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ.

وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ وَالْفِدْيَةُ بَدَلٌ عَنْهَا، وَالْأَصْلُ لَا يَتَأَدَّى بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَكَذَا الْبَدَلُ وَالْبَدَلُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ جَبْرًا وَالْجَبْرُ يُنَافِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ هَذَا إذَا أَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ بِقَدْرِ مَا فَاتَهُ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ، فَأَمَّا إذَا أَدْرَكَ بِقَدْرِ مَا يَقْضِي فِيهِ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ بِأَنْ صَحَّ الْمَرِيضُ أَيَّامًا ثُمَّ مَاتَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِقَدْرِ مَا صَحَّ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ حَتَّى لَوْ مَاتَ

<<  <  ج: ص:  >  >>