لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ بَلْ لِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي لَمْ يَصُمْهُ وَإِنْ صَامَهُ فَلَا وَصِيَّةَ عَلَيْهِ رَأْسًا.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْجَمِيعِ إذَا صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا حَتَّى يَلْزَمَهُ الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ إنْ لَمْ يَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَإِنْ صَامَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ وَمَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَمَا أَثْبَتَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ النَّذْرِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا.
فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مِقْدَارُ مَا يَصِحُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ.
وَإِنْ كَانَ مَسْأَلَةُ الْقَضَاءِ عَلَى الِاتِّفَاقِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ شَرْطُ وُجُوبِ الْفِعْلِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَانَ الْإِيجَابُ تَكْلِيفَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْوُسْعُ، وَأَنَّهُ مُحَالٌ عَقْلًا وَمَوْضُوعٌ شَرْعًا وَلَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى صَوْمِ بَعْضِ الْأَيَّامِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ، فَإِنْ صَامَ ذَلِكَ الْقَدْرَ فَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِنْ لَمْ يَصُمْ فَقَدْ قَصَّرَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا غَيْرُ إذْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى الِاخْتِلَافِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ إلَّا قَدْرُ أَيَّامِ الصِّحَّةِ حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ فِيهِمَا إلَّا لِذَلِكَ الْقَدْرِ.
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمَا فَهُوَ أَنَّ قَدْرَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ يَصْلُحُ لَهُ الْأَيَّامَ كُلَّهَا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ، لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ صَالِحٌ لِلصَّوْمِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْكُلِّ فَإِذَا لَمْ يَصُمْ لَزِمَتْهُ الْوَصِيَّةُ بِالْفِدْيَةِ لِلْكُلِّ، وَإِذَا صَامَ فِيمَا قَدَرَ وَصَارَ قَدْرُ مَا صَامَ مُسْتَحِقًّا لِلْوَقْتِ فَلَمْ يَبْقَ صَالِحًا لِوَقْتٍ آخَرَ فَلَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكُلِّ عَلَى الْبَدَلِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ بِالْفِدْيَةِ لِلْكُلِّ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَضَاءِ حَرَجٌ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَنْفِيٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ.
وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ فَهَلْ هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ خَارِجَ الْوَقْتِ؟ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِي ذَلِكَ وَخَرَّجْنَا مَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَا فِيهِ اتِّفَاقٌ، وَمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ.
وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِهِ فَوَقْتُ أَدَائِهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ سَائِرُ الْأَيَّامِ خَارِجَ رَمَضَانَ سِوَى الْأَيَّامِ السِّتَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤] أَمَرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقًا عَنْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَالْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي كَالْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ أَصْلًا، كَالْأَمْرِ بِالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا، وَمَعْنَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيِّنٍ، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْمُكَلَّفِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ شَرَعَ فِيهِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ يَتَضَيَّقُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْأَدَاءِ قَبْلَ مَوْتِهِ.
وَحَكَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَعِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي الْحَجِّ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَحَكَى الْقُدُورِيُّ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ: إنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِمَا بَيْنَ رَمَضَانَيْنِ.
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ بَلْ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَا يَتَوَقَّتُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقٌ عَنْ تَعْيِينِ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ.
وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَنْ يَتَطَوَّعَ، وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى الْفَوْرِ لَكُرِهَ لَهُ التَّطَوُّعُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَأْخِيرًا لِلْوَاجِبِ عَنْ وَقْتِهِ الْمَضِيقِ، وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ إذَا أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَأَنَّهُ قَالَ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ مَعَ رُخْصَةِ التَّأْخِيرِ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْأَمْرِ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ، فَالتَّعْيِينُ يَكُونُ تَحَكُّمًا عَلَى الدَّلِيلِ وَالْقَوْلُ بِالْفِدْيَةِ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِهِ عَجْزًا لَا تُرْجَى مَعَهُ الْقُدْرَةُ عَادَةً كَمَا فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي، وَلَمْ يُوجَدْ الْعَجْزُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْقَضَاءِ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْفِدْيَةِ.
وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ فَمَا هُوَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ قَضَائِهِ إلَّا الْوَقْتَ وَتَعْيِينَ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ