للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَدَخَلَ مَسْجِدًا آخَرَ غَيْرَهُ مِنْ سَاعَتِهِ؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ ضِدُّ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ الْخُرُوجُ الَّذِي هُوَ تَرْكُ الْإِقَامَةِ فَيَبْطُلُ كَمَا لَوْ خَرَجَ عَنْ اخْتِيَارٍ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَمَّا عِنْدَ انْهِدَامِ الْمَسْجِدِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ بَعْدَ مَا انْهَدَمَ؛ فَكَانَ الْخُرُوجُ مِنْهُ أَمْرًا لَا بُدَّ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَأَمَّا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ؛ فَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ أَسْبَابِ الْعُذْرِ فِي الْجُمْلَةِ، فَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْخُرُوجِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ كَمَا إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَمْشِي مَشْيًا رَفِيقًا.

فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ سَاعَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ حَتَّى يَخْرُجَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْيَسُ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوْسَعُ.

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْخُرُوجَ الْقَلِيلَ عَفْوٌ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَمْشِي مُتَأَنِّيًا؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ وَمَا دُونَ نِصْفِ الْيَوْمِ؛ فَهُوَ قَلِيلٌ فَكَانَ عَفْوًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَرَكَ الِاعْتِكَافَ بِاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ لِفَوَاتِ الرُّكْنِ، وَبُطْلَانُ الشَّيْءِ بِفَوَاتِ رُكْنِهِ يَسْتَوِي فِيهِ الْكَثِيرُ وَالْقَلِيلُ كَالْأَكْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ وَفِي الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ضَرُورَةٌ.

وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْمَشْيِ مُخْتَلِفَةٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ صِفَةِ الْمَشْيِ وَهَهُنَا لَا ضَرُورَةَ فِي الْخُرُوجِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَمَكَثَ بَعْدَ فَرَاغِهِ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَلَّ مُكْثُهُ أَوْ كَثُرَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُنْتَقَضُ مَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ.

وَلَوْ صَعَدَ الْمِئْذَنَةَ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ بَابُ الْمِئْذَنَةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمِئْذَنَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْنَعُ فِيهِ كُلُّ مَا يُمْنَعُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَأَشْبَهَ زَاوِيَةً مِنْ زَوَايَا الْمَسْجِدِ وَكَذَا إذَا كَانَتْ دَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ إلَى دَارِهِ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الدَّارِ فَفَعَلَ ذَلِكَ؛ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَغْسِلُ رَأْسَهُ» وَإِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يُلَوِّثْ الْمَسْجِدَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَلَوَّثُ الْمَسْجِدُ يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ تَنْظِيفَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ لَوْ تَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ؛ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.

وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَهَلْ يَفْسُدُ بِالْخُرُوجِ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لَا يَفْسُدُ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَفْسُدُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَوْ نِصْفَ يَوْمٍ أَوْ مَا شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، أَوْ يَخْرُجُ فَيَكُونُ مُعْتَكِفًا مَا أَقَامَ تَارِكًا مَا خَرَجَ وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ هُوَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ كَالصَّوْمِ وَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ كَمَا لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ بِدُونِ الصَّوْمِ.

وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ مُوجِبٌ لِلْإِتْمَامِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا صِيَانَةً لِلْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ كَمَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى انْعَقَدَ قُرْبَةً فَيَحْتَاجُ إلَى صِيَانَةٍ، وَذَلِكَ بِالْمُضِيِّ فِيهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ.

وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لُبْثٌ وَإِقَامَةٌ فَلَا يَتَقَدَّرُ بِيَوْمٍ كَامِلٍ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ فِعْلٍ تَامٍّ بِنَفْسِهِ فِي زَمَانٍ: اعْتِبَارُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقِفَ اعْتِبَارُهُ عَلَى وُجُودِ غَيْرِهِ.

وَكُلُّ لُبْثٍ وَإِقَامَةٍ تُوجَدُ فَهُوَ فِعْلٌ تَامٌّ فِي نَفْسِهِ، فَكَانَ اعْتِكَافًا فِي نَفْسِهِ فَلَا تَقِفُ صِحَّتُهُ وَاعْتِبَارُهُ عَلَى وُجُودِ أَمْثَالِهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ إلَّا إذَا جَاءَ دَلِيلُ التَّغْيِيرِ فَتُجْعَلُ الْأَفْعَالُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَغَايِرَةُ حَقِيقَةً مُتَّحِدَةً حُكْمًا؛ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَمَنْ ادَّعَى التَّغْيِيرَ هَهُنَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ وَقَوْلُهُ: الشُّرُوعُ فِيهِ مُوجِبٌ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ بِقَدْرِ مَا اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ وَلَمَّا خَرَجَ فَمَا أَوْجَبَ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.

وَلَوْ جَامَعَ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: ١٨٧] قِيلَ: الْمُبَاشَرَةُ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ ﷿ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ وَالرَّفَثِ وَالْغَشَيَانِ فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ الْجِمَاعَ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يُكَنِّي بِمَا شَاءَ؛ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورٌ فِي الِاعْتِكَافِ؛ فَإِنَّ حَظْرَ الْجِمَاعِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ لَيْسَ لِمَكَانِ الْمَسْجِدِ بَلْ لِمَكَانِ الِاعْتِكَافِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ النَّهْيِ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: ١٨٧] ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>