نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَعْتَكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وَكَانُوا يَخْرُجُونَ يَقْضُونَ حَاجَتَهُمْ فِي الْجِمَاعِ ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى مُعْتَكَفِهِمْ لَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُجَامِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيُنْهَوْا عَنْ ذَلِكَ، بَلْ الْمَسَاجِدُ فِي قُلُوبِهِمْ كَانَتْ أَجَلَّ وَأَعْظَمَ مِنْ أَنْ يَجْعَلُوهَا مَكَانًا لِوَطْءِ نِسَائِهِمْ فَثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ؛ فَكَانَ الْجِمَاعُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ فَيُوجِبُ فَسَادَهُ سَوَاءٌ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ فَكَانَ الْجِمَاعُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسَوَاءٌ كَانَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ جِمَاعَ النَّاسِي لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَالنِّسْيَانُ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرٌ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ وَجُعِلَ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ.
وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ عُذْرًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي مَقْدُورُ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ إذْ الْوُقُوعُ فِيهِ لَا يَكُونُ إلَّا لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ وَلِهَذَا كَانَ النِّسْيَانُ جَابِرَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ بِقَوْلِهِ ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: ٢٨٦] وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ بِالنَّصِّ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الِاعْتِكَافِ عَيْنُ الْجِمَاعِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ.
وَالْمُحَرَّمُ فِي بَابِ الصَّوْمِ هُوَ الْإِفْطَارُ لَا عَيْنُ الْجِمَاعِ، أَوْ حَرُمَ الْجِمَاعُ لِكَوْنِهِ إفْطَارًا لَا لِكَوْنِهِ جِمَاعًا؛ فَكَانَتْ حُرْمَتُهُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْإِفْطَارُ، وَالْإِفْطَارُ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِالْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي النَّهَارِ عَامِدًا؛ فَسَدَ صَوْمُهُ وَفَسَدَ اعْتِكَافُهُ لِفَسَادِ الصَّوْمِ، وَلَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْسَدُ صَوْمُهُ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ مَانِعٌ عَنْهُ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ لَا لِأَجْلِ الصَّوْمِ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالنَّهَارُ وَاللَّيْلُ كَالْجِمَاعِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَمَا كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ، وَهُوَ مَا مُنِعَ عَنْهُ لِأَجْلِ الصَّوْمِ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالنَّهَارُ وَاللَّيْلُ كَالْجِمَاعِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَكَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
وَالْفِقْهُ مَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ بَاشَرَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ وَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: إنَّ الْمُبَاشَرَةَ الْجِمَاعُ وَمَا دُونَهُ وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَعَ الْإِنْزَالِ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ فَيُلْحَقُ بِهِ وَكَذَا لَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ؛ لِمَا قُلْنَا.
فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ لَكِنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا وَكَذَا التَّقْبِيلُ وَالْمُعَانَقَةُ وَاللَّمْسُ أَنَّهُ إنْ أَنْزَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَإِلَّا فَلَا يَفْسُدُ لَكِنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ فِي بَابِ الصَّوْمِ لَا تَحْرُمُ الدَّوَاعِي إذَا كَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَالْفَرْقُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَيْنَ الْجِمَاعِ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ مُحَرَّمٌ، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ يَكُونُ تَحْرِيمًا لِدَوَاعِيهِ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَيْهِ فَلَوْ لَمْ تَحْرُمْ؛ لَأَدَّى إلَى التَّنَاقُضِ، وَأَمَّا فِي بَابِ الصَّوْمِ فَعَيْنُ الْجِمَاعِ لَيْسَ مُحَرَّمًا، إنَّمَا الْمُحَرَّمُ هُوَ الْإِفْطَارُ أَوْ حَرُمَ الْجِمَاعُ لِكَوْنِهِ إفْطَارًا، وَهَذَا لَا يَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي فَهُوَ الْفَرْقُ.
وَلَوْ نَظَرَ فَأَنْزَلَ؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ لِانْعِدَامِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى؛ فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ.
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَلَا يَأْتِي الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ إذَا كَانَتْ اعْتَكَفَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ اعْتِكَافَهَا إذَا كَانَ بِإِذْنِ زَوْجِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ عِبَادَتِهَا.
وَيَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ بِالرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ مَعَ الْكُفْرِ فَلَا يَبْقَى مَعَ الْكُفْرِ أَيْضًا وَنَفْسُ الْإِغْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يَنْقَطِعَ التَّتَابُعُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الِاعْتِكَافَ إذَا أَفَاقَ، وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَيَّامًا أَوْ أَصَابَهُ لَمَمٌ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَعَلَيْهِ إذَا بَرَأَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا وَقَدْ فَاتَتْ صِفَةُ التَّتَابُعِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَإِنْ تَطَاوَلَ الْجُنُونُ وَبَقِيَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ أَوْ يَسْقُطَ عَنْهُ؟ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: قِيَاسٌ، وَاسْتِحْسَانٌ نَذْكُرهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ سَكِرَ لَيْلًا؛ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَفْسُدُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السَّكْرَانَ كَالْمَجْنُونِ وَالْجُنُونُ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ فَكَذَا السُّكْرُ.
(وَلَنَا) أَنَّ السُّكْرَ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَقْلِ مُدَّةً يَسِيرَةً فَلَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ وَلَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ كَالْإِغْمَاءِ.
وَلَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فَسَدَ اعْتِكَافِهَا؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاعْتِكَافِ لِمُنَافَاتِهَا الصَّوْمَ وَلِهَذَا مُنِعَتْ مِنْ انْعِقَادِ الِاعْتِكَافِ فَتُمْنَعُ مِنْ الْبَقَاءِ وَلَوْ احْتَلَمَ الْمُعْتَكِفُ؛ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ جِمَاعًا وَلَا فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ، ثُمَّ إنْ أَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَوَّثَ الْمَسْجِدُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِلَّا فَيَخْرُجَ فَيَغْتَسِلَ وَيَعُودَ إلَى الْمَسْجِدِ.
وَلَا بَأْسَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيَتَزَوَّجَ وَيُرَاجِعَ وَيَلْبَسَ وَيَتَطَيَّبَ وَيَدَّهِنَ وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَتَحَدَّثَ مَا بَدَا لَهُ بَعْدَ