للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَيْهِ الْحَجُّ إذَا لَمْ يَكْفِ مَالُهُ إلَّا لِلْعُقْبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا لَا مَاشِيًا، وَالرَّاكِبُ عُقْبَةً لَا يَرْكَبُ فِي كُلِّ الطَّرِيقِ بَلْ يَرْكَبُ فِي الْبَعْضِ، وَيَمْشِي فِي الْبَعْضِ، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ لَهُ دَارٌ لَا يَسْكُنُهَا، وَلَا يُؤَاجِرُهَا، وَمَتَاعٌ لَا يَمْتَهِنُهُ، وَعَبْدٌ لَا يَسْتَخْدِمُهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيَحُجَّ بِهِ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الزَّكَاةِ إذَا بَلَغَ نِصَابًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ مُسْتَطِيعًا فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ فَإِنْ أَمْكَنَهُ بَيْعُ مَنْزِلِهِ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مَنْزِلًا دُونَهُ، وَيَحُجَّ بِالْفَضْلِ فَهُوَ أَفْضَلُ لَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى سُكْنَاهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْحَاجَةِ قَدْرُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْمَنْزِلِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى السُّكْنَى، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ، وَلَا خَادِمٌ، وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ، وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ تُبَلِّغُهُ إلَى الْحَجِّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ فَإِنْ فَعَلَ أَثِمَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لِمِلْكِ الدَّرَاهِمِ فَلَا يُعْذَرُ فِي التَّرْكِ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ شِرَاءِ الْمَسْكَنِ، وَالْخَادِمِ بِخِلَافِ بَيْعِ الْمَسْكَنِ، وَالْخَادِمِ، فَإِنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِبَيْعِهِمَا، وَقَوْلُهُ: " وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ " مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ: وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ الذَّهَابِ، وَالرُّجُوعِ.

فَأَمَّا الْمِقْدَارُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ وَقْتِ الذَّهَابِ إلَى وَقْتِ الرُّجُوعِ فَذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَجِّ لِمَا بَيَّنَّا.

(وَمِنْهَا) أَمْنُ الطَّرِيقِ، وَإِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِمَنْزِلَةِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ لَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ إذَا خَافَ الْفَوْتَ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ يَقُولُ إنَّهُ تَجِبُ الْوَصِيَّةُ إذَا خَافَ الْفَوْتَ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ يَقُولُ: لَا تَجِبُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَصِرْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ شَرْطُ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ الْوُجُوبِ مَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَمْنَ الطَّرِيقِ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ، وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ أَمْنِ الطَّرِيقِ كَمَا لَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ بَيَّنَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ بَيَانَ كِفَايَةٍ لِيُسْتَدَلَّ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ أَمْنَ الطَّرِيقِ لَمْ يَذْكُرْ صِحَّةَ الْجَوَارِحِ، وَزَوَالَ سَائِرِ الْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ، وَذَلِكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ عَلَى أَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَا زَادَ لَهُ، وَلَا رَاحِلَةَ مَعَهُ فَكَانَ شَرْطُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ شَرْطًا لِأَمْنِ الطَّرِيقِ ضَرُورَةً.

(وَأَمَّا) .

الَّذِي يَخُصُّ النِّسَاءَ فَشَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَحْرَمٌ لَهَا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ.

وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَلْزَمُهَا الْحَجُّ، وَالْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، وَلَا مَحْرَمٍ إذَا كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ فِي الرُّفْقَةِ ثِقَاتٌ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ [آل عمران: ٩٧] .

وَخِطَابُ النَّاسِ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ، وَالْإِنَاثَ بِلَا خِلَافٍ فَإِذَا كَانَ لَهَا زَادٌ، وَرَاحِلَةٌ كَانَتْ مُسْتَطِيعَةً، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ يُؤْمَنُ الْفَسَادُ عَلَيْهَا، فَيَلْزَمُهَا فَرْضُ الْحَجِّ.

(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَلَا «لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» ، وَعَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ زَوْجٌ» وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا زَوْجٌ، وَلَا مَحْرَمٌ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا إذْ النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ إلَّا مَا ذُبَّ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ وَحْدَهَا.

وَالْخَوْفُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِنَّ أَكْثَرُ، وَلِهَذَا حُرِّمَتْ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى، وَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ حَالَ عَدَمِ الزَّوْجِ، وَالْمَحْرَمِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوبِ، وَالنُّزُولِ بِنَفْسِهَا فَتَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُرْكِبُهَا، وَيُنْزِلُهَا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ، وَالْمَحْرَمِ فَلَمْ تَكُنْ مُسْتَطِيعَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا النَّصُّ فَإِنْ امْتَنَعَ الزَّوْجُ أَوْ الْمَحْرَمُ عَنْ الْخُرُوجِ لَا يُجْبَرَانِ عَلَى الْخُرُوجِ، وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ لِإِرَادَةِ زَادٍ، وَرَاحِلَةٍ هَلْ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ بِنَفْسِهَا، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهَا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْمَحْرَمَ أَوْ الزَّوْجَ مِنْ ضَرُورَاتِ حَجِّهَا بِمَنْزِلَةِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ إذْ لَا يُمْكِنُهَا الْحَجُّ بِدُونِهِ كَمَا لَا يُمْكِنُهَا الْحَجُّ بِدُونِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَلَا يُمْكِنُ إلْزَامُ ذَلِكَ الزَّوْجِ أَوْ الْمَحْرَمِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ لَهُ كَمَا يَلْزَمُهَا الزَّادُ، وَالرَّاحِلَةُ لِنَفْسِهَا، وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ تَحْصِيلُ شَرْطِ

<<  <  ج: ص:  >  >>