للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّحْرِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَبِهِ نَقُولُ: إنَّهُ رُكْنٌ، وَإِذَا افْتَتَحَ الطَّوَافَ يَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، وَيَمْشِي عَلَى هَيْئَتِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ «أَنَّهُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» .

وَأَمَّا الرَّمَلُ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَمِنْ سُنَنِهِ الِاضْطِبَاعُ وَالرَّمَلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ مِنْهُ، وَكُلُّ طَوَافٍ لَيْسَ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَلَا رَمَلَ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ الرَّمَلَ فِي الطَّوَافِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النَّبِيَّ إنَّمَا رَمَلَ، وَنَدَّبَ أَصْحَابَهُ إلَيْهِ لِإِظْهَارِ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَإِبْدَاءِ الْقُوَّةِ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ قَدْ صُفَّتْ عِنْدَ دَارِ النَّدْوَةِ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ وَيَسْتَضْعِفُونَهُمْ وَيَقُولُونَ: أَوْهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَسْجِدَ اضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ، وَرَمَلَ ثُمَّ قَالَ رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَبْدَى مِنْ نَفْسِهِ جَلَدًا» .

وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَرَاهُمْ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً» ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى قَدْ زَالَ فَلَمْ يَبْقَ الرَّمَلُ سُنَّةً، لَكِنَّا نَقُولُ: الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَا تَكَادُ تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَمَلَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا» .

وَكَذَا أَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بَعْدَهُ رَمَلُوا.

وَكَذَا الْمُسْلِمُونَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَصَارَ الرَّمَلُ سُنَّةً مُتَوَاتِرَةً، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ أَوَّلَ الرَّمَلِ كَانَ لِذَلِكَ السَّبَبِ، وَهُوَ إظْهَارُ الْجَلَادَةِ، وَإِبْدَاءُ الْقُوَّةِ لِلْكَفَرَةِ، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ السَّبَبُ وَبَقِيَتْ سُنَّةُ الرَّمَلِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ بَقَاءَ السَّبَبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الْحُكْمِ كَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِهِمَا، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ لَمَّا رَمَلَ النَّبِيُّ بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ السَّبَبِ صَارَ الرَّمَلُ سُنَّةً مُبْتَدَأَةً فَنَتَّبِعُ النَّبِيَّ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا نَعْقِلُ مَعْنَاهُ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ رَمَلَ فِي الطَّوَافِ، وَقَالَ: مَا لِي أَهُزُّ كَتِفِي، وَلَيْسَ هَهُنَا أَحَدٌ رَأَيْتُهُ، لَكِنْ أَتَّبِعُ رَسُولَ اللَّهِ أَوْ قَالَ: لَكِنْ أَفْعَلُ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ، وَيَرْمُلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَا يَرْمُلُ بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، وَبَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَإِنَّمَا يَرْمُلُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الرَّمَلَ فِي الْأَصْلِ كَانَ لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ إنَّمَا كَانُوا يَطَّلِعُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ.

فَإِذَا صَارُوا إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهِمْ لِصَيْرُورَةِ الْبَيْتِ حَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَمَلَ ثَلَاثًا مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ، وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ الرَّمَلَ كَانَ لِإِظْهَارِ الْقُوَّةِ وَالْجَلَادَةِ، إنَّ الرَّمَلَ الْأَوَّلَ كَانَ لِذَلِكَ.

وَقَدْ زَالَ وَبَقِيَ حُكْمُهُ أَوْ صَارَ الرَّمَلُ بَعْدَ ذَلِكَ سُنَّةً مُبْتَدَأَةً لَا لِمَا شُرِعَ لَهُ الْأَوَّلُ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ لَا نَعْقِلُهُ.

وَأَمَّا الِاضْطِبَاعُ فَلِمَا رَوَيْنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَرْمُلُ مُضْطَبِعًا بِرِدَائِهِ» ، وَتَفْسِيرُ الِاضْطِبَاعِ بِالرِّدَاءِ هُوَ أَنْ يُدْخِلَ الرِّدَاءَ مِنْ تَحْتِ إبْطِهِ الْأَيْمَنِ، وَيَرُدَّ طَرَفَهُ عَلَى يَسَارِهِ، وَيُبْدِيَ مَنْكِبَهُ الْأَيْمَنَ، وَيُغَطِّيَ الْأَيْسَرَ، سُمِّيَ اضْطِبَاعًا لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّبُعِ، وَهُوَ الْعَضُدُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْدَاءِ الضَّبْعَيْنِ، وَهُمَا الْعَضُدَانِ، فَإِنْ زُوحِمَ فِي الرَّمَلِ وَقَفَ فَإِذَا، وَجْدَ فُرْجَةً رَمَلَ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ فِعْلِهِ إلَّا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ فَيَقِفُ إلَى أَنْ يُمْكِنَهُ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ، وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ فِي كُلِّ شَوْطٍ يَفْتَتِحُ بِهِ إنْ اسْتَطَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ أَحَدًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ كُلَّمَا مَرَّ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ اسْتَلَمَهُ» ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَوْطٍ طَوَافٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَانَ اسْتِلَامُ الْحَجَرِ فِيهِ مَسْنُونًا كَالشَّوْطِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ.

وَأَمَّا الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ فَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ أَنَّ اسْتِلَامَهُ سُنَّةٌ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إنْ اسْتَلَمَهُ فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ يَضُرَّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَسْتَلِمُهُ وَلَا يَتْرُكُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِلَامَهُ سُنَّةٌ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ تَقْبِيلَهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَسْتَلِمُهُ، وَيُقَبِّلُ يَدَهُ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، وَلَا يَتَسَلَّمُ غَيْرَهُمَا» ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>