للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، وَيَضَعُ خَدَّهُ عَلَيْهِ» ، وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِمَسْنُونٍ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ تَقْبِيلُهُ، وَلَوْ كَانَ مَسْنُونًا لَسُنَّ تَقْبِيلُهُ كَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، وَلَمْ يُقَبِّلْهُ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ.

وَأَمَّا الرُّكْنَانِ الْآخَرَانِ، وَهُمَا الْعِرَاقِيُّ، وَالشَّامِيُّ فَلَا يَسْتَلِمُهُمَا عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ ، وَهُوَ قَوْلُنَا، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ أَنَّهُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى مُعَاوِيَةَ، وَسُوَيْدًا اسْتَلَمَا جَمِيعَ الْأَرْكَانِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُعَاوِيَةَ: إنَّمَا يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِلَامَ إنَّمَا عُرِفَ سُنَّةً بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهِ مَا اسْتَلَمَ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، وَلَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا» ، وَلِأَنَّ الِاسْتِلَامَ لِأَرْكَانِ الْبَيْتِ، وَالرُّكْنُ الشَّامِيُّ وَالْعِرَاقِيُّ لَيْسَا مِنْ الْأَرْكَانِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ نَاحِيَتُهُ، وَهُمَا فِي، وَسَطِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ، وَجُعِلَ طَوَافُهُ مِنْ وَرَاءِ الْحَطِيمِ، فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ طَوَافُهُ مِنْ، وَرَائِهِ لَصَارَ تَارِكًا الطَّوَافَ بِبَعْضِ الْبَيْتِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ.

وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الطَّوَافِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَقَامِ أَوْ حَيْثُ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سُنَّةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْوَاجِبَ إلَّا الْفَرْضَ، وَلَيْسَتَا بِفَرْضٍ.

وَقَدْ وَاظَبَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ فَكَانَتَا سُنَّةً، وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، وَنَقُولُ الْفَرْضُ مَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَالْوَاجِبُ مَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ قَوْلُهُ ﷿ ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: إنَّ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ مَا ظَهَرَ فِيهِ آثَارُ قَدَمَيْهِ الشَّرِيفَيْنِ وَهُوَ حِجَارَةٌ كَانَ يَقُومُ عَلَيْهَا حِينَ نُزُولِهِ وَرُكُوبِهِ مِنْ الْإِبِلِ حِينَ كَانَ يَأْتِي إلَى زِيَارَةِ هَاجَرَ، وَوَلَدِهِ إسْمَاعِيلَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ بِاِتِّخَاذِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مُصَلًّى يُصَلِّي عِنْدَهُ صَلَاةَ الطَّوَافِ مُسْتَقْبِلًا الْكَعْبَةَ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَامَ إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ لِيُصَلِّيَ، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَلَا نَتَّخِذُ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] » ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ.

وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ الطَّوَافِ أَتَى الْمَقَامَ، وَصَلَّى عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] »

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ نَسِيَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فَقَضَاهُمَا بِذِي طُوًى فَدَلَّ أَنَّهَا، وَاجِبَةٌ.

ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَسْتَلِمُهُ لِيَكُونَ افْتِتَاحُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ كَمَا يَكُونُ افْتِتَاحُ الطَّوَافِ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَإِنَّهُ يَعُودُ بَعْدَ الصَّلَاةِ إلَى الْحَجَرِ وَكُلُّ طَوَافٍ لَا سَعْيَ بَعْدَهُ لَا يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ سَعْيٌ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُودُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ، وَقَرَأَ فِيهِمَا آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَرَأَ فِيهِمَا ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ يُسْمِعُ النَّاسَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ» ، وَلِأَنَّ السَّعْيَ مُرَتَّبٌ عَلَى الطَّوَافِ لَا يَجُوزُ قَبْلَهُ.

وَيُكْرَهُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الطَّوَافِ، وَبَيْنَ السَّعْيِ فَصَارَ كَبَعْضِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ، وَالِاسْتِلَامُ بَيْنَ كُلِّ شَوْطَيْنِ سُنَّةٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي طَوَافٍ لَا يَكُونُ بَعْدَهُ سَعْيٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ سَعْيٌ لَا يُوجَدُ الْمُلْحَقُ لَهُ بِالْأَشْوَاطِ فَلَا يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا لِمَا رَوَى جَابِرٌ «أَنَّ النَّبِيَّ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، وَخَرَجَ إلَى الصَّفَا، فَقَالَ: نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٥٨] » ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ بَابٍ يَخْرُجُ: مِنْ بَابِ الصَّفَا، أَوْ مِنْ حَيْثُ تَيَسَّرَ لَهُ، وَمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا» فَذَلِكَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْهُ لِقُرْبِهِ مِنْ الصَّفَا أَوْ لِأَمْرٍ آخَرَ، وَيَصْعَدُ عَلَى الصَّفَا إلَى حَيْثُ يَرَى الْكَعْبَةَ فَيُحَوِّلُ وَجْهَهُ إلَيْهَا وَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>