أَمْرٌ مَوْهُومٌ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي إزَالَةِ الثَّابِتِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ جَعَلَ الْأَسْآرَ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَا وَجُعِلَ الْخَامِسُ مِنْهَا السُّؤْرَ النَّجِسَ الْمُتَّفَقَ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَهُوَ سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْخِنْزِيرِ خِلَافَ مَالِكٍ كَمَا فِي الْكَلْبِ فَانْحَصَرَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى أَرْبَعَةٍ.
(وَمِنْهَا) الْخَمْرُ وَالسَّكْرُ أَمَّا الْخَمْرُ؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ رِجْسًا فِي آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَقَالَ: ﴿رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [المائدة: ٩٠] وَالرِّجْسُ: هُوَ النَّجِسُ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَرَامٌ وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ.
(وَمِنْهَا) غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ غُسَالَةَ النَّجَاسَةِ نَوْعَانِ: غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَغُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَهِيَ الْحَدَثُ أَمَّا غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَهِيَ مَا إذَا غُسِلَتْ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَالْمِيَاهُ الثَّلَاثُ نَجِسَةٌ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهَا إذْ لَا يَخْلُو كُلُّ مَاءٍ عَنْ نَجَاسَةٍ فَأَوْجَبَ تَنْجِيسَهَا وَحُكْمُ الْمِيَاهِ الثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ التَّوَضُّؤِ بِهَا، وَالْمَنْعُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِالثَّوْبِ الَّذِي أَصَابَتْهُ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفُ وَأَمَّا فِي حَقِّ تَطْهِيرِ الْمَحَلِّ الَّذِي أَصَابَتْهُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا، حَتَّى قَالَ مَشَايِخُنَا: إنَّ الْمَاءَ الْأَوَّلَ إذَا أَصَابَ ثَوْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْعَصْرِ، وَالْغَسْلِ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَالْمَاءُ الثَّانِي يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً بَعْدَ الْعَصْرِ، وَالْمَاءُ الثَّالِثُ يَطْهُرُ بِالْعَصْرِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ مَاءٍ حِينَ كَانَ فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ كَانَ هَكَذَا، فَكَذَا فِي الثَّوْبِ الَّذِي أَصَابَهُ، وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ بِالدَّلْوِ الْمَنْزُوحِ مِنْ الْبِئْرِ النَّجِسَةِ إذَا صُبَّ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ أَنَّ الثَّانِيَةَ تَطْهُرُ بِمَا تَطْهُرُ بِهِ الْأُولَى كَذَا هَذَا، وَهَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْغُسَالَةِ فِيمَا سِوَى الشُّرْبِ وَالتَّطْهِيرِ مِنْ بَلِّ الطِّينِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ طَعْمُهَا أَوْ لَوْنُهَا أَوْ رِيحُهَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَغَيَّرَ دَلَّ أَنَّ النَّجَسَ غَالِبٌ فَالْتَحَقَ بِالْبَوْلِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ دَلَّ أَنَّ النَّجَسَ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الطَّاهِرِ، وَالِانْتِفَاعُ بِمَا لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ مُبَاحٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى هَذَا إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَمَاتَتْ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ جَامِدًا تُلْقَى الْفَأْرَةُ وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا لَا يُؤْكَلُ وَلَكِنْ يُسْتَصْبَحُ بِهِ وَيُدْبَغُ بِهِ الْجِلْدُ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيَنْبَغِي لِلْبَائِعِ أَنْ يُبَيِّنَ عَيْبَهُ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَبَاعَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّهُ وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ.
(وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ﵁ أَنَّ «النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوا الْبَاقِيَ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَأَرِيقُوهُ» وَلَوْ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَمَا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ وَلِأَنَّهُ نَجِسٌ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَلَا بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ،.
(وَلَنَا) مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ﵁ أَنَّ «النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: تُلْقَى الْفَأْرَةُ وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ السَّمْنُ ذَائِبًا؟ فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا وَلَكِنْ انْتَفِعُوا بِهِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّهَا فِي الْجَامِدِ لَا تُجَاوِرُ إلَّا مَا حَوْلَهَا وَفِي الذَّائِبِ تُجَاوِرُ الْكُلَّ، فَصَارَ الْكُلُّ نَجِسًا، وَأَكْلُ النَّجِسِ لَا يَجُوزُ فَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِمَا لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ فَمُبَاحٌ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ وَأَمْرُ النَّبِيِّ ﷺ بِإِلْقَاءِ مَا حَوْلَهَا فِي الْجَامِدِ، وَإِرَاقَةُ الذَّائِبِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى لِبَيَانِ حُرْمَةِ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الِانْتِفَاعِ بِالسَّمْنِ هُوَ الْأَكْلُ وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْجَامِدِ وَالذَّائِبِ: أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لِوُقُورِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا يَسْتَوِي مِنْ سَاعَتِهِ، فَهُوَ جَامِدٌ، وَإِنْ كَانَ يَسْتَوِي مِنْ سَاعَتِهِ فَهُوَ ذَائِبٌ، وَإِذَا دُبِغَ بِهِ الْجِلْدُ يُؤْمَرُ بِالْغَسْلِ، ثُمَّ إنْ كَانَ يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ يُغْسَلُ وَيُعْصَرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْعَصِرُ لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَبَدًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغْسَلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ نَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَأَمَّا) غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَهِيَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فَالْكَلَامُ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي صِفَتِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ وَالثَّانِي - فِي أَنَّهُ فِي أَيِّ حَالٍ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؟ وَالثَّالِثُ - فِي أَنَّهُ بِأَيِّ سَبَبٍ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؟ (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي ظَاهِر الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ، غَيْرَ أَنَّ الْحَسَنَ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً يُقَدَّرُ فِيهِ بِالدِّرْهَمِ وَبِهِ أَخَذَ وَأَبُو يُوسُفَ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً يُقَدَّرُ فِيهِ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَبِهِ أَخَذَ وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ مُتَوَضِّئًا فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ طَاهِرٌ وَطَهُورٌ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ وَهُوَ أَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ، وَفِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute