اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا اعْتِبَارًا بِلَحْمِهَا كَسُؤْرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا - وَهُوَ عَظْمٌ جَافٌّ فَلَمْ يَخْتَلِطْ لُعَابُهَا بِسُؤْرِهَا بِخِلَافِ سُؤْرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ؛ وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الْأَوَانِي عَنْهَا مُتَعَذِّرَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَضُّ مِنْ الْهَوَاءِ فَتَشْرَبُ بِخِلَافِ سِبَاعِ الْوَحْشِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْجِيَفَ وَالْمَيْتَاتِ فَكَانَ مِنْقَارُهَا فِي مَعْنَى مِنْقَارِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ، (وَكَذَا) سُؤْرُ سَوَاكِنِ الْبُيُوتِ كَالْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ وَالْوَزَغَةِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهَا، (وَكَذَا) سُؤْرُ الْهِرَّةِ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَرَاهَةَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ، (وَاحْتَجَّا) بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ فَتَشْرَبَ مِنْهُ، ثُمَّ يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ بِهِ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ﵁ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «الْهِرَّةُ سَبُعٌ» وَهَذَا بَيَانُ حُكْمِهَا.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَلَاثًا، وَمِنْ وُلُوغِ الْهِرَّةِ مَرَّةً» وَالْمَعْنَى فِي كَرَاهَتِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَهُوَ أَنَّ الْهِرَّةَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ لَحْمِهَا، لَكِنْ سَقَطَتْ نَجَاسَةُ سُؤْرِهَا؛ لِضَرُورَةِ الطَّوَافِ فَبَقِيَتْ الْكَرَاهَةُ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَهُوَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَفَى عَنْهَا النَّجَاسَةَ بِقَوْلِهِ: «الْهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ» وَلَكِنَّ الْكَرَاهَةَ لِتَوَهُّمِ أَخْذِهَا الْفَأْرَةَ فَصَارَ فَمُهَا كَيَدِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ نَوْمِهِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ السِّبَاعِ، ثُمَّ نُسِخَ عَلَى مَذْهَبِ الطَّحَاوِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلِمَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ تِلْكَ الْهِرَّةَ لَمْ يَكُنْ عَلَى فَمِهَا نَجَاسَةٌ - عَلَى مَذْهَبِ الْكَرْخِيِّ - أَوْ يُحْمَلُ فِعْلُهُ ﷺ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَعَلَى هَذَا تَنَاوُلُ بَقِيَّةِ طَعَامٍ أَكَلَتْهُ وَتَرَكَهَا لِتَلْحَسَ الْقِدْرَ إنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى تَعْلِيمِ الْجَوَازِ وَلَوْ أَكَلَتْ الْفَأْرَةَ، ثُمَّ شَرِبَتْ الْمَاءَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ شَرِبَتْهُ عَلَى الْفَوْرِ تَنَجَّسَ الْمَاءُ وَإِنْ مَكَثَتْ، ثُمَّ شَرِبَتْ لَا يَتَنَجَّسُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَتَنَجَّسُ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلَيْنِ فِي سُؤْرِ شَارِبِ الْخَمْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) السُّؤْرُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ فَهُوَ سُؤْرُ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ فِي جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ سُؤْرَهُمَا نَجِسٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ظَاهِرُ وَجْهِ قَوْلِهِ أَنَّ عَرَقَهُ طَاهِرٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيًا وَالْحَرُّ حَرُّ الْحِجَازِ فَقَلَّمَا يَسْلَمُ الثَّوْبُ مِنْ عَرَقِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ» فَإِذَا كَانَ الْعَرَقُ طَاهِرًا فَالسُّؤْرُ أَوْلَى وَجْهُ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي سُؤْرِهِ النَّجَاسَةُ؛ لِأَنَّ سُؤْرَهُ لَا يَخْلُو عَنْ لُعَابِهِ، وَلُعَابُهُ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِ، وَلَحْمُهُ نَجِسٌ، فَلَوْ سَقَطَ اعْتِبَارُ نَجَاسَتِهِ إنَّمَا يَسْقُطُ لِضَرُورَةِ الْمُخَالَطَةِ، وَالضَّرُورَةُ مُتَعَارِضَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُخَالِطَةِ كَالْهِرَّةِ وَلَا فِي الْمُجَانِبَةِ كَالْكَلْبِ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْآثَارَ تَعَارَضَتْ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِهِ وَنَجَاسَتِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْحِمَارُ يَعْتَلِفُ الْقَتَّ وَالتِّبْنَ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ﵄ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّهُ رِجْسٌ وَكَذَا تَعَارَضَتْ الْأَخْبَارُ فِي أَكْلِ لَحْمِهِ وَلَبَنِهِ، رُوِيَ فِي بَعْضِهَا النَّهْيُ، وَفِي بَعْضِهَا الْإِطْلَاقُ، وَكَذَا اعْتِبَارُ عَرَقِهِ يُوجِبُ طَهَارَةَ سُؤْرِهِ، وَاعْتِبَارُ لَحْمِهِ وَلَبَنِهِ يُوجِبُ نَجَاسَتَهُ، وَكَذَا تَحَقَّقَ أَصْلُ الضَّرُورَةِ لِدَوَرَانِهِ فِي صَحْنِ الدَّارِ وَشُرْبُهُ فِي الْإِنَاءِ يُوجِبُ طَهَارَتَهُ، وَتَقَاعُدُهَا عَنْ ضَرُورَةِ الْهِرَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَعْلُو الْغُرَفَ وَلَا يَدْخُلُ - الْمَضَايِقَ - يُوجِبُ نَجَاسَتَهُ، وَالتَّوَقُّفُ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ فَأَوْجَبْنَا الْجَمْعَ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ التَّوَضُّؤِ بِهِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِهِ لَوْ جَازَ لَا يَضُرُّهُ التَّيَمُّمُ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ التَّوَضُّؤُ بِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ، فَلَا يَحْصُلُ الْجَوَازُ بِيَقِينٍ إلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَأَيُّهُمَا قُدِّمَ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ، حَتَّى يُقَدَّمَ الْوُضُوءُ عَلَى التَّيَمُّمِ لِيَصِيرَ عَادِمًا لِلْمَاءِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إنْ كَانَ طَاهِرًا فَقَدْ تَوَضَّأَ بِهِ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ نَجِسًا تَتَنَجَّسُ بِهِ أَعْضَاؤُهُ وَثِيَابُهُ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْحَدَثَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا تَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِالشَّكِّ، وَالْعُضْوُ وَالثَّوْبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِالشَّكِّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الشَّكُّ فِي طَهُورِيَّتِهِ، ثُمَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ جَعَلَ هَذَا الْجَوَابَ فِي سُؤْرِ الْأَتَانِ، وَقَالَ فِي سُؤْرِ الْفَحْلِ: إنَّهُ نَجِسٌ، لِأَنَّهُ يَشُمُّ الْبَوْلَ فَتَتَنَجَّسُ شَفَتَاهُ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute