فَكَذَا إذَا ارْتَدَّا؛ لِأَنَّ فِي رِدَّتِهِمَا رِدَّةَ أَحَدِهِمَا، وَزِيَادَةً، وَلِلِاسْتِحْسَانِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ﵃، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمَّا ارْتَدَّتْ فِي زَمَن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ﵁ ثُمَّ أَسْلَمُوا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَ حَضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ﵃، فَإِنْ قِيلَ بِمَ يُعْلَمُ هُنَاكَ أَنَّهُمْ ارْتَدُّوا، وَأَسْلَمُوا مَعًا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ الْقِرَانُ بَلْ احْتَمَلَ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ فِي الرِّدَّةِ، وَالْإِسْلَامِ فَفِيمَا عُلِمَ أَوْلَى أَنْ لَا يُفَرَّقَ، ثُمَّ نَقُولُ الْأَصْلُ فِي كُلِّ أَمْرَيْنِ حَادِثَيْنِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُ مَا بَيْنَهُمَا أَنْ يُحْكَمَ بِوُقُوعِهِمَا مَعًا كَالْغَرْقَى، وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى وَلَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ كِتَابِيَّةً يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً، فَتَمَجَّسَتْ تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّ الْمَجُوسِيَّةَ لَا تَصْلُحُ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا ابْتِدَاءً، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَلَا نَفَقَةَ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، فَكَانَتْ فَسْخًا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا، فَلَهَا الْمَهْرُ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا مَهْرَ، وَإِنْ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ يَجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ الْمَهْرُ سُمِّيَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ تَجِبُ الْمُتْعَةُ، وَبَعْدَ الدُّخُولِ يَجِبُ كُلُّ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ.
وَلَوْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً؛ فَتَنَصَّرَتْ أَوْ نَصْرَانِيَّةً؛ فَتَهَوَّدَتْ لَمْ تَثْبُتْ الْفُرْقَةُ، وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْقَرَارِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ تُجْبَرُ عَلَى أَنْ تُسْلِمَ أَوْ تَعُودَ إلَى دِينِهَا الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ كَمَا فِي الْمُرْتَدِّ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهَا كَانَتْ مُقِرَّةً بِأَنَّ الدِّينَ الَّذِي انْتَقَلَتْ إلَيْهِ بَاطِلٌ، فَكَانَ تَرْكُ الِاعْتِرَاضِ تَقْرِيرًا عَلَى الْبَاطِلِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
(وَلَنَا) أَنَّهَا انْتَقَلَتْ مِنْ بَاطِلٍ إلَى بَاطِلٍ، وَالْجَبْرُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْبَاطِلِ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً؛ فَصَبَأَتْ لَمْ تَثْبُتْ الْفُرْقَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الصَّابِئِيَّةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا.
وَمِنْهَا إسْلَامُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَكِنْ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ فِي الْحَالِ بَلْ تَقِفُ عَلَى مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْبَاقِي مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، وَنَفْسُ الْكُفْرِ أَيْضًا لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ، فَإِذَا أَبَى حِينَئِذٍ يُفَرَّقُ، وَكَانَتْ الْفُرْقَةُ حَاصِلَةً بِالْإِبَاءِ، وَلَا يُعْرَفُ الْإِبَاءُ إلَّا بِالْعَرْضِ، وَقَدْ امْتَنَعَ الْعَرْضُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ، وَقَدْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْرِيقِ إذْ الْمُشْرِكُ لَا يَصْلُحُ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ، فَيُقَامُ شَرْطُ الْبَيْنُونَةِ، وَهُوَ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ إذْ هُوَ شَرْطُ الْبَيْنُونَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مَقَامَ الْعِلَّةِ، وَإِقَامَةُ الشَّرْطِ مَقَامَ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ جَائِزٌ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ، وَهِيَ ثَلَاثُ حِيَضٍ صَارَ مُضِيُّ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِمَنْزِلَةِ تَفْرِيقِ الْقَاضِي.
وَتَكُونُ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهُ فُرْقَةٌ بِسَبَبِ الْإِبَاءِ حُكْمًا وَتَقْدِيرًا.
وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ هَلْ تَجِبُ الْعِدَّةُ بَعْدَ مُضِيِّهَا؟ بِأَنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُسْلِمَةُ، فَخَرَجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَتَمَّتْ الْحِيَضُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الزَّوْجُ؛ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهَا حَرْبِيَّةٌ.
وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ عِنْدَنَا بِأَنْ خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَتَرَكَ الْآخَرَ كَافِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ.
وَلَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مُسْتَأْمَنًا، وَبَقِيَ الْآخَرُ كَافِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ عِلَّةٌ لِثُبُوتِ الْفُرْقَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ هِيَ السَّبْيُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هَاجَرَتْ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَخَلَّفَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ كَافِرًا بِمَكَّةَ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ» .
وَلَوْ ثَبَتَتْ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ لَمَا رُدَّ بَلْ جُدِّدَ النِّكَاحُ؛ وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فِي انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ، وَانْقِطَاعُ الْوِلَايَةِ لَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ النِّكَاحِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يَبْقَى بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ، وَالْوِلَايَةُ مُنْقَطِعَةٌ.
(وَلَنَا) أَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ يَخْرُجُ الْمِلْكُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ، فَيَزُولُ كَالْمُسْلِمِ إذَا ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ أَمْوَالِهِ، وَتُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ