الْأَيْمَانِ وَأَثْبَتَهَا بِمَا كَسَبَ الْقَلْبُ، وَيَمِينُ الْغَمُوسِ مَكْسُوبَةٌ بِالْقَلْبِ فَكَانَتْ الْمُؤَاخَذَةُ ثَابِتَةً بِهَا إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْهَمَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنَّهَا بِالْإِثْمِ أَوْ بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ لَكِنْ فَسَّرَ فِي الْأُخْرَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ ﷿ ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ﴾ [المائدة: ٨٩] الْآيَةُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةُ، وَبِقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ﴾ [المائدة: ٨٩] الْآيَةُ أَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ، وَيَمِينُ الْغَمُوسِ مَعْقُودَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْعَقْدِ يَقَعُ عَلَى عَقْدِ الْقَلْبِ وَهُوَ الْعَزْمُ وَالْقَصْدُ وَقَدْ وُجِدَ بِقَوْلِهِ ﷿ فِي آخِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] جَعَلَ الْكَفَّارَةَ الْمَعْهُودَةَ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُمُومِ خَصَّ مِنْهُ يَمِينَ اللَّغْوِ فَمَنْ ادَّعَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ مَعَ مَا أَنَّ أَحَقَّ مَا يُرَادُ بِهِ الْغَمُوسُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوُجُوبَ بِنَفْسِ الْحَلِفِ دُونَ الْحِنْثِ وَذَلِكَ هُوَ الْغَمُوسُ إذْ الْوُجُوبُ فِي غَيْرِهِ يَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ ﷾ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ﴾ [آل عمران: ٧٧] الْآيَةُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ﵁ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِالنُّصُوصِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُوجِبَ الْغَمُوسِ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ فَمَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فَقَدْ زَادَ عَلَى النُّصُوصِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِمِثْلِهَا وَمَا رُوِيَ عَنْ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ اللِّعَانِ: «اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» دَعَاهُمَا إلَى التَّوْبَةِ لَا إلَى الْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَاجَتَهُمَا إلَى بَيَانِ الْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً كَانَتْ أَشَدَّ مِنْ حَاجَتِهِمَا إلَى بَيَانِ كَذِبِ أَحَدِهِمَا وَإِيجَابِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّوْبَةِ بِالذَّنْبِ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَاقِلٍ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ مَعُونَةِ السَّمْعِ، وَالْكَفَّارَةُ الْمَعْهُودَةُ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالسَّمْعِ فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ مَعَ أَنَّ الْحَالَ حَالُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ دَلَّ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
وَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ فِي الْخَصْمَيْنِ أَنَّهُ قَضَى لِأَحَدِهِمَا وَذَكَرَ فِيهِ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَهُوَ غَيْرُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَمَرَهُمَا ﷺ بِالِاسْتِهَامِ وَأَنْ يُحَلِّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْكَفَّارَةَ وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَعُلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ أَوْ الْقِيَاسُ وَلَمْ يُوجَدْ وَأَقْوَى الدَّلَائِلِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ نَفْيُ دَلِيلِهِ أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَظَاهِرُ الِانْتِفَاءِ وَكَذَا النَّصُّ الْقَاطِعُ لِأَنَّ أَهْلَ الدِّيَانَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ نَصٌّ قَاطِعٌ، وَالنَّصُّ الظَّاهِرُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ الِاعْتِقَادُ قَطْعًا فَلَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ ظَاهِرًا فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَمِنْ شَرْطِهِ التَّسَاوِي وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ الذَّنْبَ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ أَعْظَمُ وَمَا صَلَحَ لِدَفْعِ أَدْنَى الذَّنْبَيْنِ لَا يَصْلُحُ لِرَفْعِ أَعْلَاهُمَا، وَلِهَذَا قَالَ: إِسْحَاقُ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيهَا فَقَوْلُ مَنْ يُوجِبُهَا ابْتِدَاءً شَرْعٌ وَنَصْبُ حُكْمٍ عَلَى الْخَلْقِ وَهُوَ لَمْ يُشْرِكْ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٥] لِأَنَّ مُطْلَقَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْجِنَايَاتِ يُرَادُ بِهَا الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهَا حَقِيقَةُ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْجَزَاءِ.
فَأَمَّا الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ تَكُونُ خَيْرًا وَتَكْفِيرًا فَلَا تَكُونُ مُؤَاخَذَةً مَعْنًى وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِيَمِينِ الْغَمُوسِ ثَابِتَةٌ فِي الْآخِرَةِ وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى - يُؤَاخِذُكُمْ إخْبَارٌ أَنَّهُ يُؤَاخِذُ.
فَأَمَّا قَضِيَّةُ الْمُؤَاخَذَةِ فَلَيْسَتْ بِمَذْكُورَةٍ فَيَسْتَدْعِي نَوْعَ مُؤَاخَذَةٍ، وَالْمُؤَاخَذَةُ بِالِاسْمِ مُرَادَةٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ مُرَادًا إذًا.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ﴾ [المائدة: ٨٩] فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ هُوَ الشَّدُّ وَالرَّبْطُ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ عَقْدُ الْحَبْلِ وَعَقْدُ الْحِمْلِ، وَانْعِقَادُ الرِّقِّ وَهُوَ ارْتِبَاطُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَقَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْعَهْدُ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِأَنَّ الْآيَةَ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَالتَّشْدِيدُ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا عَقْدَ اللِّسَانِ وَهُوَ عَقْدُ الْقَوْلِ وَالتَّخْفِيفُ يَحْتَمِلُ الْعَقْدَ بِاللِّسَانِ وَالْعَقْدَ بِالْقَلْبِ وَهُوَ الْعَزْمُ وَالْقَصْدُ، فَكَانَتْ قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ مُحْكَمَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى إرَادَةِ الْعَقْدِ بِاللِّسَانِ وَالْقِرَاءَةُ بِالتَّخْفِيفِ مُحْتَمِلَةً فَيُرَدُّ الْمُحْتَمِلُ إلَى الْمُحْكَمِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْمُوَافِقَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute