للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ فِيهَا بِالْحَلِفِ وَالْحِنْثِ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ وَالْحِنْثُ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْيَمِينِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

وَكَذَا قَوْله تَعَالَى ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] وَحِفْظُ الْيَمِينِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَحْقِيقُ الْبِرِّ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَإِنْجَازُ الْوَعْدِ وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَاَللَّهُ ﷿ الْمُوَفِّقُ.

(وَأَمَّا) يَمِينُ اللَّغْوِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِالتَّوْبَةِ وَلَا بِالْمَالِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٥] أَدْخَلَ كَلِمَةَ النَّفْيِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فَيَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُؤَاخَذَةِ فِيهَا بِالْإِثْمِ وَالْكَفَّارَةِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي تَفْسِيرِهَا وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْيَمِينِ عَلَى الْمَعَاصِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ثُمَّ الْحَالِفُ بِاللَّغْوِ إنَّمَا لَا يُؤَاخَذُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى،.

فَأَمَّا الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي نَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ عَامًّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالْخَبَرِ وَالنَّظَرِ، أَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ» وَذَكَرَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ، وَاللَّاغِي لَا يَعْدُو هَذَيْنِ فَدَلَّ أَنَّ اللَّغْوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَأَمَّا النَّظَرُ فَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ مِمَّا يَقَعُ مُعَلَّقًا وَمُنَجَّزًا وَمَتَى عُلِّقَ بِشَرْطٍ كَانَ يَمِينًا فَأَعْظَمُ مَا فِي اللَّغْوِ أَنَّهُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ وَارْتِبَاطَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ فَيَبْقَى مُجَرَّدَ ذِكْرِ صِيغَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيَعْمَلُ فِي إفَادَةِ مُوجَبِهِمَا بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا لَغَا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَبْقَى مُجَرَّدُ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ اللَّغْوُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - لَا فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَسَائِرِ الْأَجْزِيَةِ.

(وَأَمَّا) حُكْمُ الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَالْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى فِعْلِ وَاجِبٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى تَرْكِ الْمُبَاحِ أَوْ فِعْلِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى فِعْلِ وَاجِبٍ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأُصَلِّيَنَّ صَلَاةَ الظَّهْرِ الْيَوْمَ أَوْ لَأَصُومَنَّ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ لِقَوْلِهِ «مَنْ حَلَفَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» وَلَوْ امْتَنَعَ يَأْثَمُ وَيَحْنَثُ وَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ كَانَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي صَلَاةَ الْفَرْضِ أَوْ لَا أَصُومُ رَمَضَانَ أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَأَزْنِيَنَّ أَوْ لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا أَوْ لَا أُكَلِّمُ وَالِدِي وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ الْكَفَّارَةُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْنِثَ نَفْسَهُ وَيَكُونُ بِالْمَالِ لِأَنَّ عَقْدَ هَذِهِ الْيَمِينِ مَعْصِيَةٌ فَيَجِبُ تَكْفِيرُهَا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي الْحَالِ كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةٌ مَعْهُودَةٌ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» أَيْ عَلَيْهِ أَنْ يُحْنِثَ نَفْسَهُ لِقَوْلِهِ «مَنْ حَلَفَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى فَلَا يَعْصِهِ» .

وَتَرْكُ الْمَعْصِيَةِ بِتَحْنِيثِ نَفْسِهِ فِيهَا فَيَحْنَثُ بِهِ وَيُكَفِّرُ بِالْمَالِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ الْمَعْهُودَةُ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمَعَاصِي وَإِنْ حَنَّثَ نَفْسَهُ فِيهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ «إذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا فَلْيَأْتِهِ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ بِهَا» وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ شُرِعَتْ لِرَفْعِ الذَّنْبِ وَالْحِنْثُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ لَيْسَ بِذَنْبٍ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِرَفْعِ الذَّنْبِ وَلَا ذَنْبَ.

(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ﴾ [المائدة: ٨٩] إلَى قَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْيَمِينِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَغَيْرِهَا وَالْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «إذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينٍ ثُمَّ رَأَى خَيْرًا مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ حَدِيثَيْهِ فَبَقِيَ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ لَنَا بِلَا تَعَارُضٍ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا لِعُذْرٍ فِي الْحَانِثِ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِمُطْلَقِ الْحِنْثِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَانِثُ سَاهِيًا أَوْ خَاطِئًا أَوْ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونًا فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمُبَاحَاتِ: إمَّا لِأَنَّ الْحِنْثَ فِيهَا يَقَعُ خُلْفًا فِي الْوَعْدِ وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ لِأَنَّ الْحَالِفَ وَعَدَ أَنْ يَفْعَلَ وَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا حَنِثَ فَقَدْ صَارَ بِالْحِنْثِ مُخْلِفًا فِي الْوَعْدِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>