فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ لِيَصِيرَ الْحَلِفُ مَسْتُورًا كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَوْ لِأَنَّ الْحِنْثَ مِنْهُ يَخْرُجُ مَخْرَجَ الِاسْتِخْفَافِ بِالِاسْتِشْهَادِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ مَتَى قُوبِلَ ذَلِكَ بِعَقْدِهِ السَّابِقِ لَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ إذْ الْمُسْلِمُ لَا يُبَاشِرُ الْمَعْصِيَةَ قَصْدًا لِمُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَةِ الِاسْتِخْفَافِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ جَبْرًا لِمَا هَتَكَ مِنْ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى صُورَةً لَا حَقِيقَةً وَسَتْرًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَجْهَيْنِ مَوْجُودٌ هَهُنَا فَيَجِبُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ الْكَفَّارَةُ شُرِعَتْ لِرَفْعِ الذَّنْبِ فَنَعَمْ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ لَا ذَنْبَ؟ وَقَوْلُهُمْ الْحِنْثُ وَاجِبٌ؟ ، قُلْنَا بَلَى لَكَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَقْضُ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ عَهْدٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ الْحِنْثُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ذَنْبٌ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَإِنْ كَانَ عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي نَافِلَةً وَلَا أَصُومُ تَطَوُّعًا وَلَا أَعُودُ مَرِيضًا وَلَا أُشَيِّعُ جِنَازَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُبَاحٍ تَرْكًا أَوْ فِعْلًا كَدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ فَالْأَفْضَلُ لَهُ الْبِرُّ وَلَهُ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ سَوَاءٌ قَصَدَ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِنْدَنَا بِأَنْ كَانَتْ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا بُدَّ مِنْ قَصْدِ الْيَمِينِ لِتَجِبَ الْكَفَّارَةُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ» فَتَخْصِيصُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالذِّكْرِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْهَزْلِ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْجَدِّ وَالْهَزْلِ يَخْتَلِفُ فِي غَيْرِهَا لِيَكُونَ التَّخْصِيصُ مُفِيدًا.
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى - ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ﴾ [المائدة: ٨٩] أَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْقَصْدِ إذْ الْعَقْدُ هُوَ الشَّدُّ وَالرَّبْطُ وَالْعَهْدُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَوْلُهُ ﷿ ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] أَيْ حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ جَعَلَ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُمُومِ عِنْدَ وُجُودِ الْحَلِفِ وَالْحِنْثِ وَقَدْ وُجِدَ.
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْيَمِينُ» مَعَ مَا أَنَّ رِوَايَتَهُ الْأُخْرَى مَسْكُوتَةٌ عَنْ غَيْرِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ إذْ لَا يَتَعَرَّضُ لِغَيْرِهَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ - وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ -.
ثُمَّ وَقْتُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ وَقْتُ وُجُودِ الْحِنْثِ فَلَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ قَوْمٌ وَقْتُهُ وَقْتُ وُجُودِ الْيَمِينِ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِعَقْدِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ﴾ [المائدة: ٨٩] وَقَوْلِهِ ﷿ ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] وَقَوْلِهِ ﷿ ﴿فَكَفَّارَتُهُ﴾ [المائدة: ٨٩] أَيْ كَفَّارَةُ مَا عَقَّدْتُمْ مِنْ الْأَيْمَانِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَسْتَدْعِي مُضَافًا إلَيْهِ سَابِقًا وَلَمْ يَسْبِقْ غَيْرُ ذَلِكَ الْعَقْدِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] أَضَافَ الْكَفَّارَةَ إلَى الْيَمِينِ وَعَلَى ذَلِكَ تُنْسَبُ الْكَفَّارَةُ إلَى الْيَمِينِ فَيُقَالُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فِي الْأَصْلِ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّكْفِيرِ بَعْدَ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ ﵊ فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ أَضَافَ التَّكْفِيرَ إلَى الْيَمِينِ فَكَذَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» أَمَرَ بِتَكْفِيرِ الْيَمِينِ لَا بِتَكْفِيرِ الْحِنْثِ فَدَلَّ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِلْيَمِينِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْ الْوَعْدِ إلَّا بِالِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ [الكهف: ٢٣] ﴿إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: ٢٤] .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ فِي الْيَمِينِ أَوْكَدُ وَأَشَدُّ مِمَّنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ بِلَا ثُنْيَا فَقَدْ صَارَ عَاصِيًا بِإِتْيَانِ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِدَفْعِ ذَلِكَ الْإِثْمِ عَنْهُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةٌ وَالْكَفَّارَةُ تَكُونُ لِلسَّيِّئَاتِ إذْ مِنْ الْبَعِيدِ تَكْفِيرُ الْحَسَنَاتِ، فَالسَّيِّئَاتُ تُكَفَّرُ بِالْحَسَنَاتِ.
قَالَ اللَّهُ ﷾ ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: ١١٤] وَعَقْدُ الْيَمِينِ مَشْرُوعٌ قَدْ أَقْسَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَكَذَا الرُّسُلُ الْمُتَقَدِّمَةُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ ﵊ أَنَّهُ قَالَ ﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٥٧] .
وَقَالَ خَبَرًا عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُمْ ﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ [يوسف: ٨٥] وَكَذَا أَيُّوبُ ﵊ كَانَ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ فَأَمَرَهُ اللَّهُ ﷾ بِالْوَفَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ﴾ [ص: ٤٤] وَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعْصُومُونَ عَنْ