الْكَبَائِرِ وَالْمَعَاصِي فَدَلَّ أَنَّ نَفْسَ الْيَمِينِ لَيْسَتْ بِذَنْبٍ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «إذَا حَلَفْتُمْ فَاحْلِفُوا بِاَللَّهِ» .
وَقَالَ ﷺ «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» أَمَرَ ﷺ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - فَدَلَّ أَنَّ نَفْسَ الْيَمِينِ لَيْسَ بِذَنْبٍ فَلَا يَجِبُ التَّكْفِيرُ لَهَا وَإِنَّمَا يَجِبُ لِلْحِنْثِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَأْثَمُ فِي الْحَقِيقَةِ وَمَعْنَى الذَّنْبِ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، فَالْحِنْثُ يَخْرُجُ مَخْرَجَ نَقْضِ الْعَهْدِ مِنْهُ فَيَأْثَمُ بِالنَّقْضِ لَا بِالْعَهْدِ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ﴾ [النحل: ٩١] الْآيَةَ وَلِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَعْلِهِ مَفْزَعًا إلَيْهِ وَمَأْمَنًا عَنْهُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ مَحْوًا لَهُ وَسِتْرًا وَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْحَالِفَ يَصِيرُ عَاصِيًا بِتَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - تَرَكُوا الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْيَمِينِ وَلَمْ يَجُزْ وَصْفُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ فَدَلَّ أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ فِي مُطْلَقِ الْوَعْدِ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَرَاهَةً وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ - عَزَّ - وَجَلَّ - أَعْلَمُ - لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَعْدَ إضَافَةُ الْفِعْلِ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ أَفْعَلُ غَدًا كَذَا وَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ فِعْلَهُ لَا يَتَحَقَّقُ لِأَحَدٍ إلَّا بَعْدَ تَحْقِيقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الِاكْتِسَابُ لِذَلِكَ إلَّا بِإِقْدَارِهِ فَيُنْدَبُ إلَى قِرَانِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْوَعْدِ لِيُوَفَّقَ عَلَى ذَلِكَ وَيُعْصَمَ عَنْ التَّرْكِ وَفِي الْيَمِينِ يُذْكَرُ الِاسْتِشْهَادُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ، قَدْ اسْتَغَاثَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِلَيْهِ فَزِعَ فَيَتَحَقَّقُ التَّعْظِيمُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ وَزِيَادَةٌ فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي أَنَّ الْيَمِينَ شُرِعَتْ لِتَأْكِيدِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ خُصُوصًا فِي الْبَيْعَةِ، وَقِرَانُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ لَهُ الْعَقْدُ، بِخِلَافِ الْوَعْدِ الْمُطْلَقِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَتَأْوِيلُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِمُحَافَظَةِ مَا عَقَّدْتُمْ مِنْ الْأَيْمَانِ وَالْوَفَاءِ بِهَا كَقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ [النحل: ٩١] فَإِنْ تَرَكْتُمْ ذَلِكَ فَكَفَّارَتُهُ كَذَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] فَتَرَكْتُمْ الْمُحَافَظَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ ﷿ ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] وَالْمُحَافَظَةُ تَكُونُ بِالْبِرِّ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ عَلَى إضْمَارِ الْحِنْثِ أَيْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِحِنْثِكُمْ فِيمَا عَقَّدْتُمْ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] أَيْ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنَثْتُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: ١٩٦] مَعْنَاهُ فَحَلَفَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ وَقَوْلُهُ ﷿ ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] مَعْنَاهُ فَتَحَلَّلَ، وَقَوْلُهُ ﷿ ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤] أَيْ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْمَلْفُوظِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّخْفِيفِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ فَصَارَ اسْتِعْمَالُ الرُّخْصَةِ مُضْمَرًا فِيهِ، كَذَلِكَ هَهُنَا لَا تَصْلُحُ الْيَمِينُ الَّتِي هِيَ تَعْظِيمُ الرَّبِّ ﷻ سَبَبًا لِوُجُوبِ التَّكْفِيرِ فَيَجِبُ إضْمَارُ مَا هُوَ صَالِحٌ وَهُوَ الْحِنْثُ وَأَمَّا إضَافَةُ الْكَفَّارَةِ إلَى الْيَمِينِ فَلَيْسَتْ لِلْوُجُوبِ بِهَا بَلْ عَلَى إرَادَةِ الْحِنْثِ كَإِضَافَةِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ إلَى الصِّيَامِ وَإِضَافَةِ الدَّمِ إلَى الْحَجِّ - وَالسُّجُودِ إلَى السَّهْوِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ سَبَبًا كَذَا هَذَا وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ بِرِوَايَاتٍ: رُوِيَ «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» وَرُوِيَ «فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَرُوِيَ «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» وَهُوَ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِنَفْسِ الْيَمِينِ لَقَالَ ﵊ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَلْيُكَفِّرْ مِنْ غَيْرِ التَّعَرُّضِ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَاذَا وَلَمَا لَزِمَ الْحِنْثُ إذَا كَانَ خَيْرًا ثَمَّ بِالتَّكْفِيرِ فَلَمَّا خَصَّ الْيَمِينَ عَلَى مَا كَانَ الْحِنْثُ خَيْرًا مِنْ الْبِرِّ بِالنَّقْضِ وَالْكَفَّارَةِ عُلِمَ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْحِنْثِ دُونَ الْيَمِينِ نَفْسِهَا وَأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِعَقْدِ الْيَمِينِ دُونَ الْحِنْثِ، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِهَا قَبْلَ الْحِنْثِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ قَبْلَ الْحِنْثِ،.
فَأَمَّا التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْحِنْثِ بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ كَفَّرَ بِالْمَالِ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تُضَافُ إلَى الْيَمِينِ يُقَالُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] وَالْحُكْمُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ هُوَ الْأَصْلُ فَدَلَّ أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَكَانَ هَذَا تَكْفِيرًا بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ قَبْلَ الْحِنْثِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute