وَرُكْنُ الْيَمِينِ هُمَا الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ فَإِذَا وُجِدَ كَانَ التَّصَرُّفُ يَمِينًا وَلِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مَعْرِفَةِ الْأَسَامِي إلَى أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ يَمِينًا مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ مَعْنَى الْحَمْلِ وَالْمَنْعِ دَلَّ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ التَّصَرُّفِ يَمِينًا، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ.
وَقَالَ إذَا أَوْ إذَا مَا أَوْ مَتَى أَوْ مَتَى مَا أَوْ حَيْثُمَا أَوْ مَهْمَا كَانَ يَمِينًا لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فَقَالَ ذَلِكَ يَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا لِانْعِدَامِ حُرُوفِ الشَّرْطِ بَلْ هُوَ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى الْغَدِ وَالشَّهْرِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْغَدَ وَالشَّهْرَ ظَرْفًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي غَدٍ وَفِي شَهْرٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ظَرْفًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إلَّا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلَوْ قَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ إذَا مَضَى غَدٌ أَوْ إذَا جَاءَ رَمَضَانُ أَوْ إذَا ذَهَبَ رَمَضَانُ أَوْ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ كَانَ يَمِينًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ يَمِينًا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْمَنْعُ أَوْ الْحَمْلُ إذْ لَا يَقْدِرُ الْحَالِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ مَجِيءِ الْغَدِ وَلَا عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ يَمِينًا بِخِلَافِ دُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ زَيْدٍ، وَلِأَنَّ الشَّرْطَ مَا فِي وُجُودِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ خَطَرٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُوجَدَ، وَالْغَدُ يَأْتِي لَا مَحَالَةَ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا فَلَمْ يَكُنْ يَمِينًا.
(وَلَنَا) أَنَّهُ وُجِدَ ذِكْرُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ مُعَلَّقٍ بِالشَّرْطِ فَكَانَ يَمِينًا، وَمَعْنَى الْمَنْعِ أَوْ الْحَمْلِ مِنْ أَغْرَاضِ الْيَمِينِ وَثَمَرَاتِهَا، وَحَقَائِقُ الْأَسَامِي تَتْبَعُ حُصُولَ الْمُسَمَّيَاتِ بِذَوَاتِهَا وَذَلِكَ بِأَرْكَانِهَا لَا بِمَقَاصِدِهَا الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا - وَاَللَّهُ ﷿ الْمُوَفِّقُ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الشَّرْطَ مَا فِي وُجُودِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ خَطَرٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُوجَدَ، وَالْغَدُ يَأْتِي لَا مَحَالَةَ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ أَنَّ هَذَا مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ شَرْطًا بَلْ مِنْ شَرْطِ أَنْ يَكُونَ جَائِزَ الْوُجُودِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَنَعْنِي بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَحِيلَ الْوُجُودِ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا فَكَانَ التَّصَرُّفُ يَمِينًا عَلَى أَنَّ جَوَازَ الْعَدَمِ إنْ كَانَ شَرْطًا فَهُوَ مَوْجُودٌ هَهُنَا لِأَنَّ مَجِيءَ الْغَدِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ مُسْتَحِيلَ الْعَدَمِ حَقِيقَةً لِجَوَازِ قِيَامِ السَّاعَةِ فِي كُلِّ لَمْحَةٍ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ [النحل: ٧٧] وَهَذَا لِأَنَّ السَّاعَةَ وَإِنْ كَانَ لَهَا شَرَائِطُ لَا تَقُومُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي يَوْمِنَا هَذَا فَيَقَعُ الْأَمْنُ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَكِنَّ هَذَا يُوجِبُ الْأَمْنَ عَنْ الْقِيَامِ، إمَّا لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرَ الْقِيَامِ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ خَبَرَ الصَّادِقِ عَنْ امْرَأَتِهِ لَا يُوجَدُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُوجَدُ، إمَّا لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُتَصَوَّرَ وُجُودُهُ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ مَقْدُورُ الْعَبْدِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ التَّكْلِيفُ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ فَكَانَ مَجِيءُ الْغَدِ جَائِزَ الْعَدَمِ فِي نَفْسِهِ لَا مُسْتَحِيلَ الْعَدَمِ فَكَانَ شَرْطُ كَوْنِهِ شَرْطًا وَهُوَ جَوَازُ الْعَدَمِ حَقِيقَةً مَوْجُودًا فَكَانَ يَمِينًا، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ أَوْ أَرَدْتِ أَوْ أَحْبَبْتِ أَوْ رَضِيَتْ أَوْ هَوِيَتْ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا حَتَّى لَوْ كَانَ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ - لَا يَحْنَثُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْطَ مَعْنَاهُ الْعَلَامَةُ وَهُوَ مَا جَعَلَهُ الْحَالِفُ عَلَمًا لِنُزُولِ الْجَزَاءِ، وَالْحَالِفُ هَهُنَا مَا جَعَلَ قَوْلَهُ إنْ شِئْت عَلَمًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَلْ جَعَلَهُ لِتَمْلِيكِ الطَّلَاقِ مِنْهَا كَأَنَّهُ قَالَ مَلَّكْتُكِ طَلَاقَك، أَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ؟ وَمَا جُعِلَ عَلَمًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا وَهَذَا لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمَحْضَ مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الطَّلَاقِ فَحَسْبُ فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ وُجُودُهُ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَمًا بَلْ يَكُونُ عِلَّةً لِحُصُولِهِ، وَالْمَشِيئَةُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الطَّلَاقُ بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ إنْ شِئْت طَلَاقَكِ فَطَلِّقِي وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعْنَى الشَّرْطِ لَمْ تَكُنِ الْمَشِيئَةُ الْمَذْكُورَةُ شَرْطًا فَلَمْ يُوجَدْ أَحَدُ رُكْنَيْ الْيَمِينِ وَهُوَ الشَّرْطُ فَلَمْ تُوجَدْ الْيَمِينُ فَلَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت أَنَا لَمْ يَكُنْ يَمِينًا حَتَّى لَا يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ إذَا حَلَفَ لَا يَحْلِفُ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا إذَا حِضْت وَطَهُرْت فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَالِفَ مَا جَعَلَ هَذَا الشَّرْطَ عَلَمًا لِنُزُولِ الْجَزَاءِ بَلْ جَعَلَهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يُذْكَرُ عَادَةً كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ.
وَكَذَا إذَا قَالَ إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ اسْمٌ لِلْكَامِلِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَمَا زَادَ عَلَى هَذَا يُعْرَفُ فِي الْجَامِعِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي تَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ كُلَّمَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَحْنَثُ لَا لِوُجُودِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالدُّخُولِ لِتَعَذُّرِ التَّعْلِيقِ لِانْعِدَامِ حَرْفِهِ بَلْ لِضَرُورَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute