أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مَوْضُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي دَارٍ دَاخِلُهَا وَخَارِجُهَا سَطْحٌ وَاحِدٌ فَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ مُنْهَبِطَةً فَأَدْخَلَ إلَيْهَا إحْدَى رِجْلَيْهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ حَصَلَ فِيهَا وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، فَإِنْ أَدْخَلَ رَأْسَهُ وَلَمْ يُدْخِلْ قَدَمَيْهِ أَوْ تَنَاوَلَ مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدُخُولٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يُقْطَعُ؟ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ خَرَابًا قَدْ كَانَ دَارًا وَذَهَبَ بِنَاؤُهَا لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ كَانَتْ حِيطَانُهَا قَائِمَةً فَدَخَلَ يَحْنَثُ، وَلَوْ عَيَّنَ فَقَالَ أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَذَهَبَ بِنَاؤُهَا لَا يَحْنَثُ وَلَوْ كَانَتْ حِيطَانُهَا قَائِمَةً وَدَخَلَ يَحْنَثُ وَلَوْ عَيَّنَ فَقَالَ: لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَذَهَبَ بِنَاؤُهَا بَعْدَ يَمِينِهِ ثُمَّ دَخَلَهَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارًا وَإِنْ ذُكِرَ مُطْلَقًا لَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَهِيَ الدَّارُ الْمَبْنِيَّةُ فَيُرَاعَى فِيهِ الِاسْمُ وَالصِّفَةُ وَهِيَ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الصِّفَةِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَحْنَثُ، وَقَوْلُهُ هَذِهِ الدَّارُ إشَارَةٌ إلَى الْمُعَيَّنِ الْحَاضِرِ فَيُرَاعَى فِيهِ ذَاتُ الْمُعَيَّنِ لَا صِفَتُهُ لِأَنَّ الْوَصْفَ لِلتَّعْرِيفِ وَالْإِشَارَةُ كَافِيَةٌ لِلتَّعْرِيفِ وَذَاتُ الدَّارِ قَائِمَةٌ بَعْدَ الِانْهِدَامِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ، وَالْعَرْصَةُ قَائِمَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ بِدُونِ الْبِنَاءِ قَوْلُ النَّابِغَةِ
يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ … أَقْوَتْ فَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ
إلَّا الْأَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا … وَالنُّؤْيَ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ
سَمَّاهَا دَارًا بَعْدَمَا خَلَتْ مِنْ أَهْلِهَا وَخَرِبَتْ وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إلَّا الْأَوَارِيَ وَالنُّؤْيَ وَلَوْ أُعِيدَ الْبِنَاءُ فَدَخَلَهَا يَحْنَثُ، أَمَّا فِي الْمُعَيَّنِ فَلَا شَكَّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَهَا بِدُونِ الْبِنَاءِ يَحْنَثُ فَمَعَ الْبِنَاءِ أَوْلَى.
وَأَمَّا فِي الْمُنَكَّرِ فَلِوُجُودِ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ وَهِيَ الْبِنَاءُ وَإِنْ بُنِيَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا فَدَخَلَهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ قَدْ بَطَلَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى دَارًا فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ، وَلَوْ أَعَادَهَا دَارًا فَدَخَلَهَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا غَيْرُ الدَّارِ الْأُولَى
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذَا الْمَسْجِدَ فَهُدِمَ فَصَارَ صَحْرَاءَ ثُمَّ دَخَلَهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ قَالَ هُوَ مَسْجِدٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا، وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْضِعِ السُّجُودِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْخَرَابِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنَّ الْمَسْجِدَ إذَا خَرِبَ وَاسْتَغْنَى النَّاسُ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْقَى مَسْجِدًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ أَوْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ بَعْدَ مَا انْهَدَمَ وَلَا بِنَاءَ فِيهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبَيْتُوتَةِ سُمِّيَ بَيْتًا لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ وَلَا يُبَاتُ إلَّا فِي الْبِنَاءِ وَلِهَذَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الْأَخْبِيَةَ بُيُوتًا فَصَارَ الْبِنَاءُ فِيهِ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ مُلْتَحِقًا بِذَاتِ الْمُسَمَّى كَاسْمِ الطَّعَامِ لِلْمَائِدَةِ وَالشَّرَابِ لِلْكَأْسِ وَالْعَرُوسِ لِلْأَرِيكَةِ فَيَزُولُ الِاسْمُ بِزَوَالِهِ، وَلَوْ بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لَا يَحْنَثُ أَيْضًا فِي الْمُعَيَّنِ لِأَنَّ الْمُعَادَ عَيْنٌ أُخْرَى غَيْرُ الْأَوَّلِ فَلَا يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ حَنِثَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ دُخُولُ الْبَيْتِ وَلَوْ انْهَدَمَ السَّقْفُ وَحِيطَانُهُ قَائِمَةٌ فَدَخَلَهُ يَحْنَثُ فِي الْمُعَيَّنِ وَلَا يَحْنَثُ فِي الْمُنَكَّرِ لِأَنَّ السَّقْفَ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ فِيهِ وَهِيَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْفُسْطَاطِ وَهُوَ مَضْرُوبٌ فِي مَوْضِعٍ فَقُلِعَ وَضُرِبَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَدَخَلَ فِيهِ يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ الْقُبَّةُ مِنْ الْعِيدَانِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ دَرَجٌ مِنْ عِيدَانٍ بِدَارٍ أَوْ مِنْبَرٍ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَزُولُ بِنَقْلِهَا مِنْ مَكَان إلَى مَكَان.
وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ إلَى هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ أَوْ إلَى هَذَا الْحَائِطِ فَهُدِمَا ثُمَّ بُنِيَا بِنَقْضِهِمَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ إذَا هُدِمَ زَالَ الِاسْمُ عَنْهُ وَكَذَا الْأُسْطُوَانَةُ فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَكْتُبُ بِهَذَا الْقَلَمِ فَكَسَرَهُ ثُمَّ بَرَاهُ فَكَتَبَ بِهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَبْرِيِّ لَا يُسَمَّى قَلَمًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى أُنْبُوبًا فَإِذَا كُسِرَ فَقَدْ زَالَ الِاسْمُ فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ عَلَى مِقَصٍّ فَكَسَرَهُ ثُمَّ جَعَلَهُ مِقَصًّا غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ قَدْ زَالَ بِالْكَسْرِ وَكَذَلِكَ كُلُّ سِكِّينٍ وَسَيْفٍ وَقِدْرٍ كُسِرَ ثُمَّ صُنِعَ مِثْلُهُ، وَلَوْ نَزَعَ مِسْمَارَ الْمِقَصِّ وَلَمْ يَكْسِرْهُ ثُمَّ أَعَادَ فِيهِ مِسْمَارًا آخَرَ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَزُلْ بِزَوَالِ الْمِسْمَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا نَزَعَ نِصَابَ السِّكِّينِ وَجَعَلَ عَلَيْهِ نِصَابًا آخَرَ؛ لِأَنَّ السِّكِّينَ اسْمٌ لِلْحَدِيدِ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى قَمِيصٍ لَا يَلْبَسُهُ أَوْ قَبَاءً مَحْشُوًّا أَوْ مُبَطَّنًا أَوْ جُبَّةً مُبَطَّنَةً أَوْ مَحْشُوَّةً أَوْ قَلَنْسُوَةً أَوْ خُفَّيْنِ فَنَقَضَ ذَلِكَ كُلَّهُ ثُمَّ أَعَادَهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ بَقِيَ بَعْدَ النَّقْضِ، يُقَالُ قَمِيصٌ مَنْقُوضٌ وَجُبَّةٌ مَنْقُوضَةٌ وَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ عَلَى الْعَيْنِ لَا تَبْطُلُ بِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ هَذَا السَّرْجَ فَفَتَقَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ هَذِهِ السَّفِينَةَ فَنَقَضَهَا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِذَلِكَ الْخَشَبِ فَرَكِبَهَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى سَفِينَةً بَعْدَ النَّقْضِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute