بِالْحَقِيقَةِ أَوْلَى.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حَنِثَ لِأَنَّ الدَّقِيقَ هَكَذَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَلَا يُسْتَفُّ إلَّا نَادِرًا وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَلَهُ مَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ وَهُوَ كُلُّ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ فَحُمِلَ عَلَيْهِ وَإِنْ نَوَى أَنْ لَا يَأْكُلَ الدَّقِيقَ بِعَيْنِهِ لَا يَحْنَثُ بِأَكَلِ مَا يُخْبَزُ مِنْهُ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْكُفُرَّى شَيْئًا فَصَارَ بُسْرًا أَوْ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ شَيْئًا فَصَارَ رُطَبًا أَوْ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ شَيْئًا فَصَارَ تَمْرًا أَوْ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْعِنَبِ شَيْئًا فَصَارَ زَبِيبًا فَأَكَلَهُ أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَيْئًا فَأَكَلَ مِنْ جُبْنٍ صُنِعَ مِنْهُ أَوْ مَصْلٍ أَوْ أَقِطٍ أَوْ شِيرَازَ أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْبَيْضَةِ فَصَارَتْ فَرْخًا فَأَكَلَ مِنْ فَرْخٍ خَرَجَ مِنْهَا أَوْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ مِنْ هَذِهِ الْخَمْرِ شَيْئًا فَصَارَتْ خَلًّا لَمْ يَحْنَثْ فِي جَمِيع ذَلِكَ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْيَمِينَ مَتَى تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ تَبْقَى بِبَقَاءِ الْعَيْنِ وَتَزُولُ بِزَوَالِهَا وَالصِّفَةُ فِي الْعَيْنِ الْمُشَارِ إلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِأَنَّ الصِّفَةَ لِتَمْيِيزِ الْمَوْصُوفِ مِنْ غَيْرِهِ وَالْإِشَارَة تُكْفَى لِلتَّعْرِيفِ فَوَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ وَغَيْرُ الْمُعَيَّنِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِشَارَة فَيَكُونُ تَعْرِيفُهُ بِالْوَصْفِ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا نَقُولُ الْعَيْنُ بُدِّلَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَلَا تَبْقَى الْيَمِينُ الَّتِي عُقِدَتْ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْعَيْنُ فِي الرُّطَبِ وَإِنْ لَمْ تُبَدَّلْ لَكِنْ زَالَ بَعْضُهَا وَهُوَ الْمَاءُ بِالْجَفَافِ لِأَنَّ اسْمَ الرُّطَبِ يُسْتَعْمَلُ عَلَى الْعَيْنِ وَالْمَاءِ الَّذِي فِيهَا فَإِذَا جَفَّ فَقَدْ زَالَ عَنْهَا الْمَاءُ فَصَارَ آكِلًا بَعْضَ الْعَيْنِ الْمُشَارِ إلَيْهَا فَلَا يَحْنَثُ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا صَارَ شَيْخًا أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ هُنَاكَ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ هُوَ الْوَصْفُ لَا بَعْضُ الشَّخْصِ فَيَبْقَى كُلُّ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَبَقِيَتْ الْيَمِينُ وَفَرْقٌ آخَرُ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي فِي هَذِهِ الْأَعْيَانِ مِمَّا تُقْصَدُ بِالْيَمِينِ مَنْعًا وَحَمْلًا كَالرُّطُوبَةِ الَّتِي هِيَ فِي التَّمْرِ وَالْعِنَبِ فَإِنَّ الْمَرْطُوبَ تَضْرِبُهُ الرُّطُوبَاتُ فَتَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِهَا.
وَالصِّبَا وَالشَّبَابُ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِالْمَنْعِ بَلْ الذَّاتُ هِيَ الَّتِي تُقْصَدُ فَتَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِالذَّاتِ دُونَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ فَبَاعَهُ ثُمَّ كَلَّمَهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ هَذَا الْحَوْلِيِّ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا صَارَ كَبْشًا أَوْ مِنْ لَحْمِ هَذَا الْجَدْيِ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا صَارَ تَيْسًا يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يُجَامِعُ هَذِهِ الصَّبِيَّةَ فَجَامَعَهَا بَعْدَمَا صَارَتْ امْرَأَةً يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ نَوَى فِي الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحَدِّ حَبَّةً فَأَكَلَهَا بَعْدَمَا صَارَتْ بِطِّيخًا لَا رِوَايَةَ فِيهِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
قَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَذُوقُ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَيْئًا أَوْ لَا يَشْرَبُ فَصُبَّ فِيهِ مَاءٌ فَذَاقَهُ أَوْ شَرِبَهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا حَنِثَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ غَالِبًا يُسَمَّى لَبَنًا وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى نَبِيذٍ فَصَبَّهُ فِي خَلٍّ أَوْ عَلَى مَاءٍ مِلْحٍ فَصُبَّ عَلَى مَاءٍ عَذْبٍ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ إذَا اخْتَلَطَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَلَبَةُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْغَلَبَةَ فِي اللَّوْنِ أَوْ الطَّعْمِ لَا فِي الْأَجْزَاءِ فَقَالَ إنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَسْتَبِينُ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ حَنِثَ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَبِينُ لَهُ لَوْنٌ وَلَا طَعْمٌ لَا يَحْنَثْ سَوَاءٌ كَانَتْ أَجْزَاءَهُ أَكْثَرَ أَوْ لَمْ تَكُنْ وَاعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ غَلَبَةَ الْأَجْزَاءِ فَقَالَ إنْ كَانَتْ أَجْزَاءُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ غَالِبًا يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَتْ مَغْلُوبَةً لَا يَحْنَثْ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: إنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَكْثَرِ وَالْأَقَلُّ يَكُونُ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ اللَّوْنَ وَالطَّعْمَ إذَا كَانَا بَاقِيَيْنِ كَانَ الِاسْمُ بَاقِيًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ لَبَنٌ مَغْشُوشٌ وَخَلٌّ مَغْشُوشٌ وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ لَوْنٌ وَلَا طَعْمٌ لَا يُبْقِي الِاسْمُ وَيُقَالُ مَاءٌ فِيهِ لَبَنٌ وَمَاءٌ فِيهِ خَلٌّ فَلَا يَحْنَثُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فَإِنْ كَانَ طَعْمُهُمَا وَاحِدًا أَوْ لَوْنُهُمَا وَاحِدًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ مِنْ حَيْثُ الْأَجْزَاءُ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ أَجْزَاءَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ هِيَ الْغَالِبَةُ يَحْنَثْ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْجَزَاءَ الْمُخَالِطَ لَهُ أَكْثَرُ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ وَقَعَ الشَّكُّ فِيهِ وَلَا يُدْرَى ذَلِكَ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَحْنَثَ لِأَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي حُكْمِ الْحِنْثِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ عِنْدَ احْتِمَالِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ عَلَى السَّوَاءِ فَالْقَوْلُ بِالْجُودِ أَوْلَى احْتِيَاطًا لِمَا فِيهِ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِيَقِينٍ وَهَذَا يَسْتَقِيمُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَيُحْتَاطُ فِي إيجَابِهَا.
فَأَمَّا فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْعَبْدِ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يَجْرِي فِيهَا الِاحْتِيَاطُ لِلتَّعَارُضِ فَيُعْمَلُ فِيهَا بِالْقِيَاسِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سَمْنًا فَأَكَلَ سَوِيقًا قَدْ لُتَّ بِسَمْنٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ أَجْزَاءَ السَّمْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute