للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّمْلِيكِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ بِالتَّطْلِيقِ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، وَالْإِنْسَانُ يَصْلُحُ وَكِيلًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ زُفَرَ فَوَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْكَلَامَ لَكَانَ تَوْكِيلًا فَكَذَا إذَا قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ لِمَا مَرَّ أَنَّ التَّقْيِيدَ فِيهِ وَالْإِطْلَاقَ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ طَلَّقَ عَنْ مَشِيئَةٍ وَلَا مَحَالَةَ لِكَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي التَّطْلِيقِ غَيْرَ مُضْطَرٍّ فِيهِ، وَلَنَا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ وَهُوَ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ فِي الْمُطْلَقِ، فَيَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ الْغَيْرِ وَتَدْبِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَكَانَ تَوْكِيلًا لَا تَمْلِيكًا.

وَأَمَّا فِي الْمُقَيَّدِ فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عَنْ رَأْيِ نَفْسِهِ وَتَدْبِيرِ نَفْسِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَهَذَا مَعْنَى الْمَالِكِيَّةِ؛ وَهُوَ التَّصَرُّفُ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَهَذَا فَرْقٌ وَاضِحٌ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.

(وَأَمَّا) قَوْلُهُ: التَّقْيِيدُ بِالْمَشِيئَةِ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مَتَى طَلَّقَ طَلَّقَ عَنْ مَشِيئَةٍ، فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَأَنَّهُ مَتَى طَلَّقَ طَلَّقَ عَنْ مَشِيئَةٍ؛ فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِمَا اخْتِيَارُ الْفِعْلِ وَتَرْكُهُ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَنْفِي الْغَلَبَةَ وَالِاضْطِرَارَ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِنَا: الْمَعَاصِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَوَلَّى تَخْلِيقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَلَا مُضْطَرٍّ فِي فِعْلِهِ وَهُوَ التَّخْلِيقُ، بَلْ هُوَ مُخْتَارٌ، وَتُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ يُقَالُ: إنْ شِئْتُ فَعَلْتُ كَذَا وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَفْعَلْ أَيْ: إنْ شِئْت آثَرْتُ الْفِعْلَ وَإِنْ شِئْتُ آثَرْتُ التَّرْكَ عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ مِنْ قَوْلِنَا: الْمُكْرَهُ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَشِيئَةِ الْمَذْكُورَةِ هَهُنَا هُوَ اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ لَا اخْتِيَارُ الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ؛ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ لَلَغَا كَلَامُهُ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى اخْتِيَارِ الْإِيثَارِ لَمْ يَلْغُ، وَصِيَانَةُ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ اللَّغْوِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْإِمْكَان، وَاخْتِيَارِ الْإِيثَارِ فِي التَّمْلِيكِ لَا فِي التَّوْكِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكِيلَ يَعْمَلُ عَنْ رَأْيِ الْمُوَكِّلِ وَتَدْبِيرِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَعِيرُ مِنْهُ الْعِبَارَةَ فَقَطْ فَكَانَ الْإِيثَارُ مِنْ الْمُوَكِّلِ لَا مِنْ الْوَكِيلِ.

وَأَمَّا الْمُمَلَّكُ فَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَإِيثَارِهِ لَا بِالْمُمَلِّكِ فَكَانَ التَّقْيِيدُ بِالْمَشِيئَةِ مُفِيدًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّوْكِيلَ لُغَةً هُوَ الْإِنَابَةُ، وَالتَّفْوِيضَ هُوَ التَّسْلِيمُ بِالْكُلِّيَّةِ لِذَلِكَ سَمَّى مَشَايِخُنَا الْأَوَّلَ تَوْكِيلًا وَالثَّانِيَ تَفْوِيضًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُقَيَّدَ بِالْمَشِيئَةِ تَمْلِيكٌ وَالْمُطْلَقَ تَوْكِيلٌ وَالتَّمْلِيكَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُمَلَّكَ إنَّمَا يَمْلِكُ بِشَرْطِ الْجَوَابِ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ بِالْخِطَابِ؛ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ خَاطَبَ غَيْرَهُ يَطْلُبُ جَوَابَ خِطَابِهِ فِي الْمَجْلِسِ فَلَا يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْهُ لِمَا مَرَّ، ثُمَّ التَّوْكِيلُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِمَا وُكِّلَ بِتَحْصِيلِهِ فِي الْمَجْلِسِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ بِشَيْءٍ لَا يَحْضُرُهُ الْمُوَكِّلُ وَيُفْعَلُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا يَسْتَغْنِي بِعِبَارَةِ نَفْسِهِ عَنْ اسْتِعَارَةِ عِبَارَةِ غَيْرِهِ فَلَوْ تَقَيَّدَ التَّوْكِيلُ بِالْمَجْلِسِ لَخَلَا عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ فَيَكُونُ سَفَهًا وَيَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلَهُ فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ، وَلَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَقَدْ صَارَ الثَّلَاثُ بِيَدِهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إيَّاهَا طَلِّقِي نَفْسَكَ أَيْ: حَصِّلِي طَلَاقًا، وَالْمَصْدَرُ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فَإِذَا نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الثِّنْتَيْنِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَصْدَرِ لَفْظُ وُحْدَانٍ وَالِاثْنَانِ عَدَدٌ لَا تَوَحُّدَ فِيهِ أَصْلًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ تَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِالْفِعْلِ فِي الشَّاهِدِ يُصْرَفُ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الْمُتَعَارَفِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِغُلَامِهِ: اسْقِ هَذِهِ الْأَرْضَ وَكَانَتْ الْأَرْضُ لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ إلَّا بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ صَارَ مَأْمُورًا بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَصْلُحُ بِالسَّقْيِ مَرَّةً وَاحِدَةً صَارَ مَأْمُورًا بِهِ، وَمَنْ قَالَ لِغُلَامِهِ: اضْرِبْ هَذَا الَّذِي اسْتَخَفَّ بِي يَنْصَرِفُ إلَى ضَرْبٍ يَقَعُ بِهِ التَّأْدِيبُ عَادَةً وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الِانْزِجَارُ وَمَنْ أَصَابَتْ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ فَقَالَ لِجَارِيَتِهِ: اغْسِلِيهِ لَا تَصِيرُ مُؤْتَمِرَةً إلَّا بِغَسْلٍ مُحَصِّلٍ لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ دَلَّ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ فِي الشَّاهِدِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْفِعْلِ فِي الْمُتَعَارَفِ وَالْعُرْفِ، وَالْمَقْصُودُ فِي قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك مُخْتَلِفٌ؛ فَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ الطَّلَاقُ الْمُبْطِلُ لِلْمِلْكِ وَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ الطَّلَاقُ الْمُبْطِلُ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ سَدًّا لِبَابِ التَّدَارُكِ، فَأَيَّ ذَلِكَ نَوَى انْصَرَفَ إلَيْهِ ثُمَّ إذَا صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً وَقَعَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ وَمَالِكُ الثَّلَاثِ لَهُ أَنْ يُوقِعَ الثَّلَاثَ أَوْ الِاثْنَتَيْنِ أَوْ الْوَاحِدَةَ كَالزَّوْجِ سَوَاءً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ أَوْ أَرَدْتِ أَوْ رَضِيَتْ أَوْ إذَا شِئْتِ أَوْ مَتَى شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْتِ أَوْ أَيْنَ شِئْتِ أَوْ حَيْثُ شِئْتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَنَوَى الثَّلَاثَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِمَا مَرَّ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ اقْتِضَاءَ ضَرُورَةِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ بِكَوْنِهَا طَالِقًا وَلَا ضَرُورَةَ فِي قَبُولِ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فَلَا

<<  <  ج: ص:  >  >>