امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا وَعَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ أَنَّهَا تَعُودُ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فِي قَوْلِهِمَا، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَعُودُ بِمَا بَقِيَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ هَلْ يَهْدِمُ الطَّلْقَةَ وَالطَّلْقَتَيْنِ؟ عِنْدَهُمَا يَهْدِمُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَهْدِمُ.
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ﵃ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ﵃ مِثْلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِثْلُ مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ ﷾ ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] إلَى قَوْلِهِ ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا تَخَلَّلَتْ إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي الثَّلَاثَ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا وَهَذِهِ مُطَلَّقَةُ الثَّلَاثَ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ هَذِهِ طَلْقَةٌ قَدْ سَبَقَهَا طَلْقَتَانِ حَقِيقَةً، وَالطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الطَّلْقَةُ الَّتِي سَبَقَهَا طَلْقَتَانِ فَدَخَلَتْ تَحْتَ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ مَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] وَحَتَّى كَلِمَةُ غَايَةٍ، وَغَايَةُ الْحُرْمَةِ لَا تُتَصَوَّرُ قَبْلَ وُجُودِ الْحُرْمَةِ، وَالْحُرْمَةُ لَمْ تَثْبُتْ قَبْلَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فَلَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ الثَّانِي مَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ النُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا النُّصُوصُ: فَالْعُمُومَاتُ الْوَارِدَةُ فِي بَابِ النِّكَاحِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٣] .
وَقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ [النور: ٣٢] وَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا تَقْتَضِي جَوَازَ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُطَلَّقَةً أَوْ لَا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا تَخَلَّلَهَا إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي أَوْ لَا إلَّا أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ الَّتِي لَمْ يَتَخَلَّلْهَا إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي خُصَّتْ عَنْ النُّصُوصِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهَا تَحْتَهَا.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ النِّكَاحَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمَسْنُونٌ وَعَقْدٌ وَمَصْلَحَةٌ لِتَضَمُّنِهِ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةٌ، وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ التَّنَاقُضِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً بِمُخَالَفَةِ الْأَخْلَاقِ وَمُبَايَنَةِ الطِّبَاعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي وَيَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْمَصَالِحِ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَشُرِعَ الطَّلَاقُ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصَالِحِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ النِّكَاحِ مِنْ زَوْجَةٍ أُخْرَى، إلَّا أَنَّ خُرُوجَ النِّكَاحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَلِهَذَا فُوِّضَ الطَّلَاقُ إلَى الزَّوْجِ لِاخْتِصَاصِهِ بِكَمَالِ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ لِيَتَأَمَّلَ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَلَى ظَنِّ الْمُخَالَفَةِ، ثُمَّ مَالَ قَلْبُهُ إلَيْهَا حَتَّى تَزَوَّجَهَا بَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ النِّفَارِ فِي طِبَاعِ الْفَحْلِ وَنِهَايَةِ الْمَنْعِ دَلَّ أَنَّ طَرِيقَ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ، وَأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي التَّجْرِبَةِ وَقَصَّرَ فِي التَّأَمُّلِ؛ فَبَقِيَ النِّكَاحُ مَصْلَحَةً لِقِيَامِ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِحُرْمَتِهِ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ ثَمَّةَ لَمْ يُوجَدْ إلَّا دَلِيلُ أَصْلِ الْمُوَافَقَةِ وَهَهُنَا وُجِدَ دَلِيلُ كَمَالِ الْمُوَافَقَةِ وَهُوَ الْمَيْلُ إلَيْهَا مَعَ وُجُودِ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي النَّفْرَةِ ثُمَّ لَمَّا حَلَّ نِكَاحُهَا فِي الِابْتِدَاءِ لِتَحْقِيقِ الْمَقَاصِدِ فَبَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي أَوْلَى، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي بَعْدَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا، فَوُرُودُ الشَّرْعِ بِجَوَازِ النِّكَاحِ ثَمَّةَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً.
وَالثَّانِي أَنَّ الْحِلَّ بَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي وَطَلَاقِهِ إيَّاهَا وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حِلٌّ جَدِيدٌ.
وَالْحِلُّ الْجَدِيدُ لَا يَزُولُ إلَّا بِثَلَاثِ طَلَقَاتٍ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا حِلٌّ جَدِيدٌ أَنَّ الْحِلَّ الْأَوَّلَ قَدْ زَالَ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الْحِلَّيْنِ حُرْمَةٌ يُجْعَلُ كَالدَّائِمِ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ فَيَكُونُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَكَانَ زَائِلًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَكَانَ الثَّانِي حِلًّا جَدِيدًا، وَالْحِلُّ الْجَدِيدُ لَا يَزُولُ إلَّا بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ.
وَأَمَّا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ [البقرة: ٢٣٠] فَنَقُولُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتَنَاوَلُ طَلْقَةً ثَالِثَةً مَسْبُوقَةً بِطَلْقَتَيْنِ بِلَا فَصْلٍ، لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ بِلَا فَصْلٍ وَإِصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي هَهُنَا حَاصِلَةٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا، أَوْ تُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي حَتَّى طَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ إصَابَةَ الزَّوْجِ الثَّانِي غَايَةً لِلْحُرْمَةِ فَنَقُولُ كَوْنُ الْإِصَابَةِ غَايَةً لِلْحُرْمَةِ يَقْتَضِي انْتِهَاءَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِصَابَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ حِلٌّ جَدِيدٌ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجِ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُعَلَّقَ طَلَقَاتٌ مُطْلَقَةٌ لَا مُقَيَّدَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute