للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّ امْرَأَةً مَاتَ زَوْجُهَا فَجَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ تَسْتَأْذِنُهُ فِي الِانْتِقَالِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «إنَّ إحْدَاكُنَّ كَانَتْ تَمْكُثُ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُلْقِي الْبَعْرَةَ أَفَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» فَدَلَّ الْحَدِيثُ أَنَّ عِدَّتَهُنَّ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَتْ حَوْلًا وَأَنَّهُنَّ كُنَّ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهِنَّ مُدَّةَ الْحَوْلِ ثُمَّ اُنْتُسِخَ مَا زَادَ عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ وَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ، وَهُوَ أَنْ تَمْكُثَ الْمُعْتَدَّةُ هَذِهِ الْمُدَّةَ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا، وَهَذَا تَفْسِيرُ الْحِدَادِ.

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُمْ مِثْلُ قَوْلِنَا وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ.

وَاخْتُلِفَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا قَالَ أَصْحَابُنَا: يَلْزَمُهَا الْحِدَادُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهَا الْحِدَادُ.

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحِدَادَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إنَّمَا وَجَبَ لِحَقِّ الزَّوْجِ تَأَسُّفًا عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَإِدَامَةِ الصُّحْبَةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُطَلَّقَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَوْحَشَهَا بِالْفُرْقَةِ وَقَطَعَ الْوُصْلَةَ بِاخْتِيَارٍ وَلَمْ يَمُتْ عَنْهَا فَلَا يَلْزَمُهَا التَّأَسُّفُ، وَلَنَا أَنَّ الْحِدَادَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لِفَوَاتِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ فِي الدِّينِ خَاصَّةً فِي حَقِّهَا لِمَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ شَهْوَتِهَا وَعِفَّتِهَا عَنْ الْحَرَامِ وَصِيَانَةِ نَفْسِهَا عَنْ الْهَلَاكِ بِدُرُورِ النَّفَقَةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْمَوْتِ فَلَزِمَهَا الْإِحْدَادُ إظْهَارًا لِلْمُصِيبَةِ وَالْحُزْنِ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثِ وَالْمُبَانَةِ فَيَلْزَمُهَا الْإِحْدَادُ، وَقَوْلُهُ: الْإِحْدَادُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَجَبَ لِحَقِّ الزَّوْجِ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِحَقِّ الزَّوْجِ لَمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَمَا فِي مَوْتِ الْأَبِ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ فِي شَرَائِطِ وُجُوبِهِ فَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْمُعْتَدَّةُ بَالِغَةً عَاقِلَةً مُسْلِمَةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَوْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا فَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ الْكَبِيرَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ وَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَالْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَهَذَا عِنْدَنَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ؛ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحِدَادَ مِنْ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ وَقَدْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ فَيَلْزَمُهَا حُكْمُهَا، وَلَنَا أَنَّ الْحِدَادَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكَافِرَةِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِمُضِيِّ زَمَانٍ وَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالُوا: لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا الْعِدَّةُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَتَزَوَّجَهُمَا وَلَا إحْدَادَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْ الْوَطْءِ كَالْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا وَلَا إحْدَادَ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَكَذَا عَلَيْهَا وَلَا إحْدَادَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ إظْهَارًا لِلْمُصِيبَةِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ غَيْرُ فَائِتٍ بَلْ هُوَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَجِبُ الْحِدَادُ بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ لِتَحْسُنَ فِي عَيْنِ الزَّوْجِ فَيُرَاجِعَهَا وَلَا إحْدَادَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِنِعْمَةٍ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَمِنْ الْمُحَالِ إيجَابُ إظْهَارِ الْمُصِيبَةِ عَلَى فَوَاتِ الْمَعْصِيَةِ بَلْ الْوَاجِبُ إظْهَارُ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ عَلَى فَوَاتِهَا.

وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْإِحْدَادِ فَيَجِبُ عَلَى الْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَمَاتَ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُسْتَسْعَاةِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ لَهُ الْحِدَادُ لَا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَانَتْ الْأَمَةُ فِيهِ كَالْحُرَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِنْهَا وُجُوبُ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَهُوَ مُؤْنَةُ السُّكْنَى لِبَعْضِ الْمُعْتَدَّاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ إمَّا إنْ كَانَتْ عَنْ طَلَاقٍ أَوْ عَنْ فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ عَنْ وَفَاةٍ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى النِّكَاحِ الْفَاسِدِ: فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ عَنْ طَلَاقٍ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَكَانَ الْحَالُ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ وَلِمَا نَذْكُرُ مِنْ دَلَائِلَ أُخَرَ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى إنْ كَانَتْ حَامِلًا بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٦] وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى عِنْدَ أَصْحَابِنَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٦] خَصَّ الْحَامِلَ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا فَلَوْ وَجَبَ الْإِنْفَاقُ عَلَى غَيْرِ الْحَامِلِ لَبَطَلَ التَّخْصِيصُ.

وَرُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: «طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا فَلَمْ يَجْعَلْ لِي النَّبِيُّ نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى» وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِالْمِلْكِ، وَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ بِالثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: عَرَفْتُ وُجُوبَ السُّكْنَى فِي الْحَامِلِ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْبَائِنِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ [الطلاق: ٦]

<<  <  ج: ص:  >  >>