وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا» .
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانَيْ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ ﵊: «اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟» قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا فَأَبَيَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَدَلَّتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَلَا بِلِعَانِهَا إذْ لَوْ وَقَعَتْ لَمَا اُحْتُمِلَ التَّفْرِيقُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ اللِّعَانِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمِلْكَ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِإِزَالَتِهِ أَوْ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَمْ تُوجَدْ الْإِزَالَةُ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يُنْبِئُ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْيَمِينِ أَوْ يَمِينٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُنْبِئُ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَا يَزُولُ بِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ وَالْأَيْمَانِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ ثَابِتَةٌ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ مُخَالِفٌ لِآيَةِ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الْأَزْوَاجَ بِاللِّعَانِ بِقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ [النور: ٦] إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ فَلَوْ ثَبَتَتْ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ فَالزَّوْجَةُ تُلَاعِنُهُ وَهِيَ غَيْرُ زَوْجَةٍ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ.
وَأَمَّا زُفَرُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْمُتَلَاعِنَ مُتَفَاعِلٌ مِنْ اللَّعْنِ وَحَقِيقَةُ الْمُتَفَاعِلِ الْمُتَشَاغِلُ بِالْفِعْلِ فَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ لَا يَبْقَى فَاعِلًا حَقِيقَةً فَلَا يَبْقَى مُلَاعِنًا حَقِيقَةً فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لِإِثْبَاتِ الْفُرْقَةِ عَقِيبَ اللِّعَانِ فَلَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ عَقِيبَهُ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ عَقِيبَهُ وُجُوبُ التَّفْرِيقِ فَإِنْ فَرَّقَ الزَّوْجُ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ فَإِذَا فَرَّقَ بَعْدَ تَمَامِ اللِّعَانِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فَإِنْ أَخْطَأَ الْقَاضِي فَفَرَّقَ قَبْلَ تَمَامِ اللِّعَانِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ الْتَعَنَ أَكْثَرَ اللِّعَانِ نَفَّذَ الْقَاضِي إذَا وَقَعَ بَعْدَ أَكْثَرِ اللِّعَانِ فَقَدْ قَضَى بِالِاجْتِهَادِ فِي مَوْضِعٍ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ فَيَنْفُذُ قَضَاؤُهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ تَفْرِيقَهُ صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَاقْتَضَى اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي اللِّعَانِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ اجْتَهَدَ أَنَّ التَّكْرَارَ فِي اللِّعَانِ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّغْلِيظِ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْأَكْثَرِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ لَمَّا سَاغَ لِلشَّافِعِيِّ الِاقْتِصَارُ عَلَى لِعَانِ الزَّوْجِ إذَا قَذَفَ الْمَجْنُونَةَ أَوْ الْمَيِّتَةَ فَلَأَنْ يَسُوغَ لَهُ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ إكْمَالِ الزَّوْجِ لِعَانَهُ وَإِتْيَانِ الْمَرْأَةِ بِأَكْثَرِ اللِّعَانِ أَوْلَى فَثَبَتَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَيَنْفُذُ فَإِنْ قِيلَ شَرْطُ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ أَنْ لَا يُخَالِفَ النَّصَّ وَهَذَا قَدْ خَالَفَ النَّصَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَرَدَ بِاللِّعَانِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ وَكَذَا النَّبِيُّ ﷺ لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعَدَدُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَالِاجْتِهَادُ إذَا خَالَفَ النَّصَّ بَاطِلٌ فَالْجَوَابُ مَمْنُوعٌ إنْ اجْتِهَادُ الْقَاضِي خَالَفَ النَّصَّ فَإِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى عَدَدٍ لَا يَنْفِي جَوَازَ الْأَكْثَرِ وَإِقَامَتَهُ مَقَامَ الْكُلِّ وَلَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ أَيْضًا، فَلَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بَلْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَكَانَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ، وَفَائِدَتُهُ التَّنْصِيصُ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الْأَصْلِ وَالْأَوْلَى وَهَذَا لَا يَنْفِي الْجَوَازَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ أَيْضًا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: الْفُرْقَةُ فِي اللِّعَانِ فُرْقَةٌ بِتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ فَيَزُولُ مِلْكُ النِّكَاحِ وَتَثْبُتُ حُرْمَةُ الِاجْتِهَادِ وَالتَّزَوُّجِ مَا دَامَا عَلَى حَالَةِ اللِّعَانِ فَإِنْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ فَجُلِدَ الْحَدَّ أَوْ أَكْذَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِأَنْ صَدَّقَتْهُ جَازَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَيَجْتَمِعَانِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: هِيَ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَإِنَّهَا تُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ﵃ مِثْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ ﵃ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كَذَبْتُ عَلَيْهَا إنْ لَمْ أُفَارِقْهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَصَارَ طَلَاقُ الزَّوْجِ عَقِيبَ اللِّعَانِ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ؛ لِأَنَّ عُوَيْمِرٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا بَعْدَ اللِّعَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَنْفَذَهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُلَاعَنٍ أَنْ يُطَلِّقَ فَإِذَا امْتَنَعَ يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute