عَلَى أَنَّهُ يُنْفِقُ لِيَرْجِعَ فَقَدْ بَطَلَ الظَّاهِرُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَرْضِ وَهُوَ يَمْلِكُ إقْرَاضَ مَالِهِ مِنْ الصَّبِيِّ فَيُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ وَهَذَا فِي الْقَضَاءِ فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَسَعُهُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي وَالْإِشْهَادِ بَعْدَ أَنْ نَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّهُ يُنْفِقُ لِيَرْجِعَ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى صَارَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الصَّغِيرِ وَهُوَ يَمْلِكُ إثْبَاتَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إقْرَاضَ مَالِهِ مِنْهُ وَاَللَّهُ ﷿ عَالِمٌ بِنِيَّتِهِ فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالثَّانِي عَجْزُهُ عَنْ الْكَسْبِ بِأَنْ كَانَ بِهِ زَمَانَةٌ أَوْ قَعَدٌ أَوْ فَلَجٌ أَوْ عَمًى أَوْ جُنُونٌ أَوْ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أَوْ أَشَلَّهُمَا أَوْ مَقْطُوعَ الرِّجْلَيْنِ أَوْ مَفْقُوءَ الْعَيْنَيْنِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ الِاكْتِسَابِ حَتَّى لَوْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا لَا يُقْضَى لَهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا إلَّا لِلْأَبِ خَاصَّةً وَالْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِنَفَقَةِ الْأَبِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُعْسِرًا عَلَى وَلَدِهِ الْمُوسِرِ وَكَذَا نَفَقَةُ الْجَدِّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِهِ إذَا كَانَ مُوسِرًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُنْفَقَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ كَانَ مُسْتَغْنًى بِكَسْبِهِ فَكَانَ غِنَاهُ بِكَسْبِهِ كَغِنَاهُ بِمَالِهِ فَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا الْوَلَدَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَى الْوَلَدَ عَنْ إلْحَاقِ أَدْنَى الْأَذَى بِالْوَالِدَيْنِ وَهُوَ التَّأْفِيفُ بِقَوْلِهِ ﷿ ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ [الإسراء: ٢٣] وَمَعْنَى الْأَذَى فِي إلْزَامِ الْأَبِ الْكَسْبَ مَعَ غِنَى الْوَلَدِ أَكْثَرُ فَكَانَ أَوْلَى بِالنَّهْيِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الِابْنِ وَلِهَذَا لَا يُحْبَسُ الرَّجُلُ بِدَيْنِ ابْنِهِ وَيُحْبَسُ بِدَيْنِ أَبِيهِ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَضَافَ مَالَ الِابْنِ إلَى الْأَبِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ فَكَانَ مَالُهُ كَمَالِهِ وَكَذَا هُوَ كَسْبُ كَسْبِهِ؛ فَكَانَ كَكَسْبِهِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الطَّلَبَ وَالْخُصُومَةَ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي فِي أَحَدِ نَوْعَيْ النَّفَقَةِ وَهِيَ نَفَقَةُ غَيْرِ الْوِلَادِ فَلَا تَجِبُ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَالْقَضَاءُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُنْفِقِ خَاصَّةً فَيَسَارُهُ فِي قَرَابَةِ غَيْرِ الْوِلَادِ مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُوسِرِ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ نَفَقَةٌ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ النَّفَقَةِ مِنْ طَرِيقِ الصِّلَةِ وَالصِّلَاتُ تَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ لَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَإِذَا كَانَ يَسَارُ الْمُنْفِقِ شَرْطَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ فِي قَرَابَةِ ذِي الرَّحِمِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حَدِّ الْيَسَارِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ.
رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ أَنَّهُ اعْتَبَرَ نِصَابَ الزَّكَاةِ قَالَ: ابْنُ سِمَاعَةَ قَالَ فِي نَوَادِرِهِ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ: لَا أُجْبِرُ عَلَى نَفَقَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ إلَّا دِرْهَمًا وَلَيْسَ لَهُ عِيَالٌ وَلَهُ أُخْتٌ مُحْتَاجَةٌ لَمْ أُجْبِرْهُ عَلَى نَفَقَتِهَا وَإِنْ كَانَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ وَيَكْتَسِبُ فِي الشَّهْرِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ لَهُ نَفَقَةُ شَهْرٍ وَعِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ نَفَقَةِ شَهْرٍ لَهُ وَلِعِيَالِهِ؛ أُجْبِرُهُ عَلَى نَفَقَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَمَّا مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ وَهُوَ يَكْتَسِبُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا يَكْتَفِي مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ دَوَانِيقَ فَإِنَّهُ يَرْفَعُ لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ مَا يَتَّسِعُ بِهِ وَيُنْفِقُ فَضْلَهُ عَلَى مَنْ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهِ، وَجْهُ رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ كِفَايَةُ شَهْرٍ فَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ فِي الْحَالِ وَالشَّهْرُ يَتَّسِعُ لِلِاكْتِسَابِ؛ فَكَانَ عَلَيْهِ صَرْفُ الزِّيَادَةِ إلَى أَقَارِبِهِ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ نَفَقَةَ ذِي الرَّحِمِ صِلَةٌ وَالصِّلَاتُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ كَالصَّدَقَةِ وَحَدُّ الْغِنَى فِي الشَّرِيعَةِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَوْفَقُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ كَسْبٌ دَائِمٌ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى جَمِيعِهِ فَمَا زَادَ عَلَى كِفَايَتِهِ يَجِبُ صَرْفُهُ إلَى أَقَارِبِهِ كَفَضْلِ مَالِهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَلَا يُعْتَبَرُ النِّصَابُ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةِ وَالنَّفَقَةُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا مَعْنَى لِلِاعْتِبَارِ بِالنِّصَابِ فِيهَا وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهَا إمْكَانُ الْأَدَاءِ، وَلَوْ طَلَبَ الْفَقِيرُ الْعَاجِزُ عَنْ الْكَسْبِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ نَفَقَةً فَقَالَ: أَنَا فَقِيرٌ وَادَّعَى هُوَ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْفَقْرُ وَالْغِنَى عَارِضٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَمُحَمَّدٌ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى النِّكَاحِ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ فَبَطَلَتْ شَهَادَةُ الظَّاهِرِ.
وَأَمَّا قَرَابَةُ الْوِلَادِ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُنْفِقُ هُوَ الْأَبَ؛ فَلَا يُشْتَرَطُ يَسَارُهُ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ بَلْ قُدْرَتُهُ عَلَى الْكَسْبِ كَافِيَةٌ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ الذُّكُورِ الزَّمْنَى الْفُقَرَاءِ وَالْإِنَاثِ الْفَقِيرَاتِ وَإِنْ كُنَّ صَحِيحَاتٍ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ وَعَجْزِهِمْ عَنْ الْكَسْبِ إحْيَاؤُهُمْ وَإِحْيَاؤُهُمْ إحْيَاءُ نَفْسِهِ؛ لِقِيَامِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَإِحْيَاءُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ جَدٌّ مُوسِرٌ لَمْ يُفْرَضْ النَّفَقَةُ عَلَى الْجَدِّ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute