الله تعالى مكانها مثلَها والأول أنسبُ لمحافظة عمومِ كلما فإنه يدل على ترديدهم هذه المقالةَ كلَّ مرة رزقوا لافيما عدا المرةَ الأولى يُظهرون التبجحَ وفرطَ الاستغراب لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذةُ مع اتحادهما في الشكل واللون كأنهم قالوا هذا عينُ مارزقناه في الدنيا فمن أين له هذه الرتبةُ من اللذة والطيب ولا يقدُح فيه ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما من أنه ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الاسمُ فإن ذلك لبيان كمالِ التفاوتِ بينهما من حيث اللذةُ والحسن لا لبيان ان لا تشابُهَ بينهما أصلاً كيف لا وإطلاقُ الأسماء منوطٌ بالاتحاد النوعيّ قطعاً هذا وقد فُسّرت الآيةُ الكريمة بأن مستلذاتِ أهلِ الجنة بمقابلة مارزقوه في الدنيا من المعارف والطاعات متفاوتةُ الحال فيجوز أن يريدوا هذا ثوابُ الذي رزقناه في الدنيا من الطاعات ولا يساعده تخصيصُ ذلك بالثمرات فإن الجنَّةَ وَمَا فِيْهَا منْ فنونِ الكرامات من قبيل الثواب
{وَأُتُواْ بِهِ متشابها} اعتراضٌ مقرر لما قبله والضميرُ المجرورُ على الأول راجعٌ إلى ما دل عليه فحوى الكلام مما رزقوا في الدارين كما في قوله تعالى {إن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} أي بجنسي الغني والفقير وعلى الثاني إلى الرزق
{وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذرة كالحيْض والدَرن ودنَس الطبع وسوءِ الخلق فإن التطهرَ يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال وقرئ مطهَّراتٌ وهما لغتان فصيحتان يقال النساءُ فعلت وفعلن وهن فاعلة وفواعل قال
وإذا العذارى بالدُّخان تقنَّعت ... واستعجلت نصبَ القدور فمَلَّتِ
فالجمع على اللفظ والإفراد على تأويل الجماعة وقرئ مطَّهِرة بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة ومطَّهِرة أبلغُ من طاهرة ومتطهرة للإشعار بأن مُطَهِّراً طهرهن وما هو إلا الله سبحانه وتعالى وأما التطهر فيحتمل أن يكون من قبل أنفسهن كما عند اغتسالهن والزوجُ يطلق على الذكر والأنثى وهو في الأصلِ اسمُ لماله قرينٌ من جنسه وليس في مفهومه اعتبارُ التوالد الذي هو مدارُ بقاءِ النوعِ حتى لا يصِحَّ إطلاقُه على أزواج أهلِ الجنة لخلودهم فيها واستغنائهم عن الأولاد كما أن الدارية لبقاء الفردِ ليست بمعتبرة في مفهومِ اسمِ الرزق حتى يُخِلَّ ذلك بإطلاقه على ثمارالجنة
{وَهُمْ فِيهَا خالدون} أي دائمون والخلودُ في الأصل الثباتُ المديد دامَ أو لم يدُمْ ولذلك قيل للأثافي والأحجارِ الخوالدُ وللجُزءِ الذي يبقى من الإنسان على حاله خلد ولو كان وضعه الدوام لما قُيِّد بالتأبيد في قوله عز وعلا خالدين فِيهَا أَبَداً ولَما استُعمل حيث لا دوام فيه لكن المرادَ ههنا الدوامُ قطعاً لما يُفضي به من الآيات والسنن وما قيل من أن الأبدانَ مؤلفةٌ من الأجزاءِ المتضادة في الكيفية معرَّضة للاستحالات المؤديةِ إلى الانحلال والانفكاكِ مدارُه قياسُ ذلك العالمِ الكاملِ بما يشاهَد في عالم الكوْن والفساد على أنه يجوز أن يُعيدَها الخالق تعالى بحيث لا يعتوِرُها الاستحالة ولا يعتريها الانحلالُ قطعاً بأن تُجعلَ أجزاؤها متفاوتةً في الكيفيات متعادلةً في القوى بحيث لا يقوى شئ منها عند التفاعُل على إحالةِ الآخر متعانقةً متلازمةً لا ينفك بعضُها عن بعض وتبقى هذه النسبةُ منخفظة فيما بينها أبدا يعتريها التغيير بالأكل والشرب والحركات وغيرِ ذلك واعلم أن معظمَ اللذاتِ الحسية لما كان مقصوراً على المساكن والمطاعم والمناكح حسبما يقتضى به الاستقراءُ وكان مَلاكُ جميع ذلك الدوامَ والثباتَ إذ كلُّ نعمة وإن جلت حيت كانت في شرف الزوال ومعرِضِ الاضمحلال فإنها منغِّصةٌ غيرُ صافيةٍ من شوائب