وتارةً في السماء وأخرى في الجنة فأخذه العُجب فكان من أمره ما كان وقال أكثر الصحابة والتابعين رضوانُ الله تعالَى عليهم في أنهم كلُّ الملائكة لعموم اللفظ وعدمِ المُخصِّص وقولُه تعالى
{إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً} في حيِّز النصبِ على أنه مقولُ قال وصيغةُ الفاعل بمعنى المستقبل ولذلك عمِلت عملَه وفيها ماليس في صيغة المضارعِ من الدلالة على أنه فاعلٌ ذلك لا محالةَ وهي من الجَعْل بمعنى التصيير المتعدِّي إلى مفعولين فقيل أولُهما خليفةٌ وثانيهما الظرفُ المتقدم على ما هو مقتضى فإن مفعولي التصيير في الحقيقة اسمُ صارَ وخبرُه أولُهما الأول وثانيهما الثاني وهما مبتدأٌ وخبرٌ والأصل في الأرض خليفةٌ ثم قيل صارَ في الأرض خليفةٌ ثم قيل صارَ في الأرض خليفةٌ ثم مصيرٌ في الأرض خليفةٌ فمعناه بعد اللتيا والتي إني جاعل خليفةً من الخلائف أو خليفةً بعينه كائناً في الأرض فإن خبرَ صار في الحقيقة هو الكونُ المقدَّر العامل في الظروف ولا ريب في أن ذلك ليس مما يقتضيه المقامُ أصلاً وإنما الذي يقتضيه هو الإخبارُ بجعل آدم خليفةً فيها كما يعرب عنه جوابُ الملائكة عليهم السلام فإذن قولُه تعالى خليفةً مفعولٌ ثانٍ والظرفُ متعلقٌ بجاعل قُدّم على المفعول الصريحِ لما مر من التشويق إلى ما أخر أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً مما بعده لكونه نكرة وأما المفعولُ الأولُ فمحذوفٌ تعويلاً على القرينة الدالة عليهِ كما في قولِهِ تعالى {وَلَا تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} حُذف فيه المفعول الاول وهوضمير الأموالِ لدلالة الحالِ عليه وكذا في قولِه تعالى {وَلَا يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم} حيث حُذف فيه المفعولُ الأول لدلالة يبخلون عليه أي لا يحسبنَّ البخلاءُ بخلَهم هو خيراً لهم ولا ريب في تحقيق القرينةِ ههنا أما إنْ حُمل على الحذف عند وقوعِ المحكيِّ فهي واضحةٌ لوقوعه في أثناء ذِكْرِه عليه السَّلامُ على ما سنفصله كأنه قيل إني خالقٌ بشراً من طين وجاعلٌ في الأرض خليفة وإما إنْ حُمل على أنه لم يُحذفْ هناك بل قيل مثَلاً وجاعلٌ إياه خليفةً في الأرض لكنه حُذفَ عند الحكاية فالقرينةُ ما ذُكِرَ من جواب الملائكة عليهم السلام قَالَ العلامة الزمخشري في تفسيرِ قولِه تعالى {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إني خالقٌ بشراً من طين} إن قلت كيف صح أن يقول لهم بشراً وما عرَفوا ما البشرُ ولا عهِدوا به قلت وجهُه أن يكون قد قال لهم اني خالقٌ خلقاً من صفته كيتَ وكيتَ ولكنه حين حكاه اقتصَر على الاسم انتهى فحيث جاز الاكتفاءُ عند الحكاية عن ذلك التفصيلِ بمجرد الاسمِ من غير قرينةٍ تدل عليه فما ظنُك بما نحن فيه ومعه قرينةٌ ظاهرةٌ ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ الجعل بمعنى الخلق المتعدي إلى مفعولٍ واحد هو خليفةً وحالُ الظرفِ في التعلق والتقديم كما مر فحينئذلا يكون ما سيأتي من كلام الملائكةِ مترتباً عليه بالذات بل بالواسطة فإنه رُوي أنه تعالى لما قال لهم إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً قالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة قال تعالى يكون له ذريةٌ يفسدون في الأرض ويتحاسَدون ويقتُلُ بعضُهم بعضاً فعند ذلك قالوا ما قالوا والله تعالى أعلم والخليفةُ من يخلُفُ غيرَه وينوب مَنابَه فعيل بمعنى الفاعل والتاء للمبالغة والمراد به إما آدمُ عليه السلام وبنوه وإنما اقتُصر عليه استغناءً بذكره عن ذكرهم كما يستغنى عن ذكر القبيلةِ بذكر أبيها كمُضَرَ وهاشمٍ ومنه الخلافةُ في قريش وإما مَنْ يخلُف أو خلف يخلُف فيعمُّه عليه السلام وغيرَه من خلفاءِ ذريتِه والمرادُ بالخلافة إما الخلافةُ من جهته سبحانه في إجراء أحكامِه وتنفيذِ أوامره بين الناس وسياسةِ الخلقِ لكن لا لحاجةٍ به تعالى إلى ذلك بل لقصور استعدادِ المستخلَف عليهم وعدمِ لياقتِهم لقبول الفيضِ بالذات فتختصُّ