لِفَضْلِهِ وتخصيصُ كلَ من المذكورين بمقامه للإيذان بأن الرفعَ مرادٌ له تعالى بالذات وتفضّلٌ محضٌ عليه لا دخلَ فيه لفعله حقيقةً كيف لا وجميعُ أفعاله ومباديها من نعمه تعالى وتفضّلاته وإن نقيضَه إنما أصابه بسوء اختيارِه على موجب الوعيدِ لا بالإرادة الذاتيةِ له سبحانه كما قيل في وجه ذكر الإرادة مع الخير والمسِّ مع الضرّ في الآية المذكورةِ وهو السرُّ في جريان السنة القرآنيةِ على إسناد الخيرِ إليه تعالى وإضافةِ الشرِّ إلى الغير كما في قوله تعالى وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ونظائرِه والإخلادُ إلى الشيء الميلُ إليه مع الاطمئنان به والمرادُ بالأرض الدنيا وقيل السفالة والمعنى ولكنه آثرَ الدنيا الدنيةَ على المنازل السنية أو الضَّعةَ والسَّفالةَ على الرِفعة والجلالة {واتبع هَوَاهُ} مُعرِضاً عن تلك الآياتِ الجليلة فانحط أبلغَ انحطاط وارتد أسفلَ سافلين وإلى ذلك أشير بقوله تعالى {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب} لما أنه أخسُّ الحيوانات وأسفلُها وقد مُثّل حالُه بأخس أحوالِه وأذلِّها حيث قيل {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} أي فحالُه التي هي مَثَلٌ في السوء كصفته في أرذل أحوالِه وهي حالةُ دوامِ اللهَثِ به في حالتي التعبِ والراحة فكأنه قيل فتردّى إلى ما لا غايةَ وراءَه في الخسة والدناءة وإيثارُ الجملة الاسميةِ على العفلية بأن يقال فصار مثلُه كمثل الكلب الخ للإيذان بدوام اتصافه لتلك الحالة الخسيسة وكمال استقراره واستمراره عليها والخطابُ في فعل الشرطِ لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب فإنه أدخلُ في إشاعة فظاعةِ حالِه واللهَثُ إدلاعُ اللسانِ بالتنفس الشديد أي هو ضيِّقُ الحال مكروبٌ دائمُ اللهَثِ سواءٌ هيّجتَه وأعجته بالطرد العنيف أو تركته على حاله فإنه في الكلاب طبعٌ لا تقدِر على نفض الهواءِ المتسخّن وجلبِ الهواءِ البارد بسهولة لضعف قلبها وانقطاع فؤادِها بخلاف سائر الحيواناتِ فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد ولا يلحقها الكربُ والمضايقةُ إلا عند التعب والإعياءِ والشرطيةُ مع أختها تفسيرٌ لما أُبهم في المَثَل وتفصيلٌ لما أُجمِلَ فيه وتوضيحٌ للتمثيل ببيان وجهِ الشبهِ لا محلَّ له من الإعراب على منهاج قوله تعالى خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ إثرَ قولَه تعالى إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدم وقيل هي في محل النصب على الحالية من الكلب بناءً على خروجهما من حقيقة الشرطِ وتحوّلِهما إلى معنى التسوية حسب تحولِ الاستفهامين المتناقضين إليه في مثلِ قولِه تعالى أأنذرتهم أم لم تنذرهم كأنه قيل لاهثاً في الحالتين وأياً ما كان فالأظهرُ أنه تشبيهٌ للهيئة المنتزَعَة مما اعتراه بعد الانسلاخِ من سوء الحالِ واضطرامِ القلب ودوامِ القلق والاضطراب وعدمِ الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعةِ مما ذكر من حال الكلب وقيل لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانُه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هَلَك {ذلك} إشارة إلى ما ذُكر من الحالة الخسيسةِ منسوبةٌ إلى الكلب أو إلى المنسلخ وما فيه من معنى البعد للإيذان ببُعد منزلتِها في الخسة والدناءة أي ذلك المثلُ السيءُ {مَثَلُ القوم الذين كذبوا بآياتنا} وهم اليهودُ حيث أوُتوا في التوراة ما أوُتوا من نعوت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وذكر القرآن المعجزة وما فيه فصدقوه وبشروا الناسَ باقتراب مبعثِه وكانوا يستفتِحون به فلما جاءهم ما عَرَفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة {فاقصص القصص} القَصصُ مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ كالسلْب واللامُ للعهد والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكورَ مثلُ هؤلاء المكذبين فاقصُصه عليهم حسبما أوحي إليك {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فيقفون على جلية الحالِ وينزجرون