بهم فليس في إضاعتها فقط من الشناعة ما في إضاعتها مع مؤيدها من المؤيدات العقليةِ والنقلية على أن ذلك يقضي إلى كون ذكر ما فُصّل من أوَّلِ السورة إلى هنا ضائعاً وأبعدُ منه حملُ اشتراء الضلالة بالهدى على مجرد اختيارها عليه من غير اعتبار كونِه في أيديهم بناءً على أنه يستعمل اتساعاً في إيثار أحدِ الشيئين الكائنين في شرَف الوقوع على الآخر فإنه مع خلوِّه عن المزايا المذكورة بالمرة مُخِلٌّ برونق الترشيح الآتي هذا على تقدير جعل الاشتراءِ المذكور عبارةً عن معاملتهم السابقة المحكية وهو الأنسبُ بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم وأما إذا جُعل ترجمةً عن جناية أخرى من جناياتهم فالمراد بالهدى ما كانوا عليه من معرفة صحةِ نبوةِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وحقيقة دينه بما كانُوا يُشاهدونَهُ من نعوته عليه الصلاة والسلام في التوراة وقد كانوا على يقين منه حتى كانوا يستفتحون به على المشركين ويقولون اللهم انصرنا بالنبيِّ المبعوثِ في آخرِ الزمان الذي نجد نعته في التوراة ويقولون لهم قد أظلَّ زمانُ نبيَ يخرجُ بتصديقِ ما قلنَا فنقتلُكُم مَعَهُ قتلَ عادٍ وإِرَم فلما جاءهم ما عَرَفوا كفروا به كما سيأتي ولا مَساغَ لحملِ الهدى على ما كانوا يُظهرونه عند لقاء المؤمنين فإنها ضلالة مضاعفة {فَمَا رَبِحَت تجارتهم} عطفٌ على الصلة داخلٌ في حيزها والفاءُ للدلالة على ترتب مضمونِه عليها والتجارةُ صناعة التجار وهو التصدي للبيع والشراءِ لتحصيل الربح وهو الفضلُ على رأس المال يقال ربِحَ فلان في تجارته أي استشفّ فيها وأصاب الربح وإسناد عدمِه الذي هو عبارة عن الخسران إليها وهو لأربابها بناءً على التوسع المبني على ما بينهما من الملابسة وفائدتُه المبالغةُ في تخسيرهم لما فيه من الإشعار بكثرة الخَسار وعمومِه المستتبع لسرايته إلى ما يُلابِسُهم وإيرادُهما إثرَ الاشتراء المستعار للاستبدال المذكور ترشيحٌ للاستعارة وتصويرٌ لما فاتهم من فوائدِ الهدى بصورة خسار التجارة الذي يتحاشا عنه كلُّ أحد للإشباع في التخسير والتحسير ولا ينافي ذلك أن التجارة في نفسها استعارةٌ لانهماكهم فيما هم عليه من إيثار الضلالة على الهدى وتمرنهم عليه معربة عن كون ذلك صناعةً لهم راسخة إذ ليس من ضروريات الترشيح أن يكون باقياً على الحقيقة تابعاً للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتُها كما في قولك رأيت أسد وافيَ البراثن فإنك لا تريد به إلا زيادة تصويرٍ للشجاع وأنه أسد كاملٌ من غير أن تريد بلفظ البراثن معنىً آخرَ بل قد يكون مستعار من ملائم المستعارِ منه لملائم المستعار له ومع ذلك يكون ترشيحاً لأصل الاستعارة كما في قوله
فلما رأيتُ النَّسرَ عَزَّ ابنَ دأْية ... وعششَّ في وَكْرَيه جاش له صدري
فإن لفظ الوَكرين مع كونه مستعاراً من معناه الحقيقي الذي هو موضعٌ يتخذه الطائر للتفريخ للرأس واللحية أو للفَوْدين أعني جانبي الرأس ترشيحٌ باعتبار معناه الأصلي لاستعارة لفظِ النسر للشيب ولفظ ابن دأية للشعر الأسود وكذا لفظُ التعشيش مع كونه مستعاراً للحلول والنزول المستمِرَّين ترشيحٌ لتينك الاستعارتين بالاعتبار المذكور وقرىء تجارتهم وتعدُّدها لتعدد المضاف إليهم {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} أي إلى طرق التجارة فإن المقصود منها سلامةُ رأس المال مع حصول الربح ولئن فات الربح في صفقة فربما يُتدارَك في صفقة أخرى لبقاء الأصل وأما إتلافُ الكل بالمرة فليس من باب التجارة قطعاً فهؤلاء الذين كان رأسُ مالهم الهدى قد استبدلوا بها الضلالة فأضاعوا كلتا الطِّلْبتين فبقُوا خائبين خاسرين نائين عن طريق التجارة بألف منزلٍ فالجملة راجعة إلى الترشيح معطوفةٌ على ما قبلها مشاركةٌ له في الترتيب على الاشتراء