يحصل التركيب المعتبر في التمثيل كما مر مراراً وأما جعلُ المشبهِ إرادتَه تعالى في الاستعارة والتمثيل فأمرٌ مؤسَّسٌ على قاعدة الاعتزالِ القائلة بجواز تخلّفِ المراد عن إرادتِه تعالى فالجملةُ حالٌ إما من فاعل خلقكم طالباً منكم التقوى أو من مفعوله وما عُطف عليه بطريق تغليبِ المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة أي خلقكم وإياهم مطلوباً منكم التقوى أو علةٌ له فإن خلقَهم على تلك الحال في معنى خلقِهم لأجل التقوى كأنه قيل خلقكم لتتقوا أو كي تتقوا إما بناءً على تجويز تعليلِ أفعاله تعالى بأغراضٍ راجعةٍ إلى العباد كما ذهب إليه كثيرٌ من أهل السنة وإما تنزيلاً لترتُّب الغايةِ عَلى مَا هيَ ثمرةٌ لَهُ منزلةَ ترتبِ الغرضِ عَلى ما هُو غرضٌ لَهُ فإنَّ استتباعَ أفعاله تعالى لغاياتِ ومصالحَ متقنةٍ جليلة من غير أن تكون هي علةٌ غائيةٌ لها بحيث لولاها لما أَقدَم عليها ممَّا لَا نزاعَ فيهِ وتقييدُ خلقهم بما ذكر من الحال أو العلة لتكميل عِلّيته للمأمورِ به وتأكيدِها فإن إتيانَهم بما خُلقوا له أدخَلُ في الوجوب وإيثارُ تتقون على تعبُدون مع موافقته لقوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} للمبالغة في إيجابِ العبادةِ والتشديدِ في إلزامها لما أن التقوى قُصارى أمرِ العابد ومنتهى جُهده فإذا لزمتهم التقوى كان ما هو أدنى منها ألزمَ والإتيانُ به أهونَ وإن روعيت جهةُ المخاطبِ فلعل في معناها الحقيقي والجملةُ حالٌ من ضمير اعبدوا كأنه قيل اعبدوا ربكم راجين للانتظام في زُمرة المتقين الفائزين بالهدى والفلاح على أن المرادَ بالتقوى مرتبتُها الثالثة التي هي التَّبتلِ إلى الله عزَّ وجلَّ بالكلية والتنزُّه عن كل ما يشغل سره عن مراقبته وهي أقصى غايات العبادة التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ وبالانتظام القدرَ المشتركَ بين إنشائه والثباتِ عليه ليرتجيَه أربابُ هذه المرتبة وما دونها من مترتبتي التوقي عن العذاب المخلد والتجنّبِ عن كلِّ ما يُؤثِّمُ من فعل أو تركٍ كما مر في تفسير المتقين ولعل توسيطَ الحال من الفاعل بين وصْفي المفعول لما في التقديم من فوات الإشعارِ بكون الوصفِ الأول معظمَ أحكام الربوبية وكونِه عريقاً في إيجاب العبادة وفي التاخيرمن زيادة طول الكلام هذا على تقدير اعتبارِ تحققِ التوقعِ بالفعل فأما إن اعتُبر تحققُه بالقوة فالجملةُ حال من مفعول خلقكم وما عُطف عليه على الطريقة المذكورة أي خلقكم وإياهم حالَ كونكم جميعاً بحيث يرجو منكم كلُّ راج أن تتقوا فإنه سبحانه وتعالى لما بَرَأهم مستعدين للتقوى جامعين لمباديها الآفاقية والأنفسية كان حالهم بحيث يرجو منهم كلُّ راجٍ أن يتقوا لا محالة وهذه الحالة مقارنةٌ لخلقهم وإن لم يتحقق الرجاء قطعاً واعلم أن الآية الكريمةَ مع كونها بعبارتها ناطقةً بوجوب توحيده تعالى وتحتّم عبادتِه على كافة الناس مرشدةٌ لهم بإشارتها إلى أن مطالعةَ الآياتِ التكوينيةِ المنصوبةِ في الأنفس والآفاق ومما يقضي بذلك قضاءً متقناً وقد بين فيها أولاً من تلك الآيات ما يتعلق بأنفسهم من خلقهم وخلقِ أسلافِهم لما أنه أقوى شهادةً وأظهرُ دلالة ثم عقب بما يتعلق بمعاشهم فقيل