وإما مزيدةٌ للتأكيد ناصبةٌ للفعل بنفسها كما هو رأيُ الكوفية ولا يقدحُ في ذلك زيادتُها كما لا يقدح زيادةُ حروفِ الجر في عملها وقوله عز وجل
{حتى يميز الخبيث من الطيب} غايةٌ لما يفيده النفيُ المذكورُ كأنَّه قيلَ ما يتركهم الله تعالى على ذلك الاختلاطِ بل يقدِّر الأمورَ ويرتب الأسبابَ حتى يعزِلَ المنافقَ من المؤمن وفي التعبير عنهما بما ورد به النظمُ الكريمُ تسجيلٌ على كلَ منهما بما يليق به وإشعارٌ بعلة الحُكمِ وإفرادُ الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكرِ ما أريد بأحدهما أعني المؤمنين بصيغة الجمعِ للإيذان بأن مدارَ إفرازِ أحدِ الفريقين من الآخر هو اتصافُهما بوصفهما لا خصوصيةُ ذاتِهما وتعددُ آحادِهما كما في مثلِ قولِه تعالى {ذلك أدنى أَلَاّ تَعُولُواْ} ونضيره قولُه تعالى {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} حيث قصد الدَلالةَ على الاتصاف بالوصف من غير تعرضٍ لكون الموصوفِ من العقلاء أو غيرِهم وتعليقُ المَيْزِ بالخبيث المعبَّرِ به عن المنافق مع أن المتبادرَ مما سبق من عدم تركِ المؤمنين على الاختلاطِ تعليقه بهم وإفرازُهم عن المنافقين لما أن المَيْزَ الواقع بين الفريقين إنما بالتصرف في المنافقين وتغييرِهم من حال إلى حال مغايرةٍ للأولى مع بقاء المؤمنين على ما كانُوا عليهِ من أصل الإيمانِ وإن ظهر مزيدُ إخلاصِهم لا بالتصرف فيهم وتغييرِهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار ولأن فيه مزيدَ تأكيدٍ للوعيد كما أشير إليه في قولَه تعالى {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} وإنما لم يُنسَبْ عدمُ التركِ إليهم لما أنه مشعر بالأعتناء بشأنِ من نُسب إليه فإن المتبادرَ منه عدمُ الترك على حالة غيرِ ملائمةٍ كما يشهد به الذوقُ السليم وقرئ حتى يمسز من التمييز وقوله تعالى
{وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} تمهيدٌ لبيان المَيزِ الموعودِ على طريق تجريدِ الخطابِ للمخلِصين تشريفاً لهم وقوله عز وجل
{وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء} إشارةٌ إلى كيفية وقوعِه على سبيل الإجمالِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في الموضعين لتربية المهابةِ فالمعنى ما كان الله ليترُك المخلِصين على الاختلاط بالمنافقين بل يرتبُ المبادئ حتى يُخرِجَ المنافقين من بينهم وما يفعل ذلك باطلاعكم على ما في قلوبِهِم منَ الكفر والنفاقِ ولكنه تعالى يوحي إلى رسوله عليه السلام فيخبرُه بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال والأفعال حسبما حُكي عنهم بعضُه فيما سلف فيفضحهم على رءوس الأشهادِ ويخلّصكم من خسة الشركاءِ وسوءِ جوارِهم والتعرضُ للاجتباء للإيذان بأن الوقوفَ على أمثال تلك الأسرار الغيبية لا يتأتي إلى ممن رشحه الله تعالى لمنصِب جليلٍ تقاصرت عنه هممُ الأممِ واصطفاه على الجماهير لإرشادهم وتعميمُ الاجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدِلالة على أن شأنَه عليه السلام في هذا البابِ أمرٌ متينٌ له أصلٌ أصيلٌ جارٍ على سنة الله تعالى المسلوكةِ فيما بين الرسلِ الخاليةِ عليهم السلام وتعميمُ الأمر في قوله تعالى
{فَآمِنُوا بالله ورسله} مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني والإشعارِ بأن ذلك مستلزِمٌ للإيمان بالكل لأنه مصدِّقٌ لما بين يديهِ من الرسل وهم شهداء بصحة نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ والمأمورُ به الإيمانُ بكل ما جاءَ به عليهِ الصلاة والسلام فيدخُل فيه تصديقُه عليه السلام فيما أخبَر به من أحوال المنافقين دخولاً أولياً هذا هو الذي يقتضيهِ جزالةُ النظمِ الكريمِ وقد جوز أن يكون المعنى لا يتركُكم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلّفَكم التكاليفَ الصعبةَ التي لا يصبِر عليها إلا الخُلّصُ الذين امتحن الله تعالى قلوبَهم كبذل الأرواحِ في الجهاد وإنفاقِ الأموالِ في سبيلِ الله تعالى