في ريب منه ارتيابَهم في استقامة معانيه وصحةِ أحكامِه بل في نفس كونِه وحياً منزَّلاً من عندِ الله عزَّ وجل وإيثار التنزيل المنبئ عن التدريج على مطلقِ الإنزالِ لتذكيرِ منشأ ارتيابِهم وبناءُ التحدي عليه إرخاءٌ للعِنان وتوسيعاً للميدان فإنهم كانوا اتخذوا نزولَه منجّماً وسيلةً إلى إنكاره فجُعل ذلك من مبادي الاعتراف به كأنه قيل إن ارتبتم في شأن ما نزلناه على مهل وتدريجٍ فهاتوا أنتم مثلَ نَوْبةٍ فذةٍ من نُوَبه ونَجْم فَرْدٍ من نجومه فإنه أيسرُ عليكم من أن يُنزلَ جُملةً واحدة ويُتحدَّى بالكل وهذا كما ترى غايةُ ما يكون في التبكيت وإزاحةِ العلل وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوانِ العبوديةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ الجلالة من التشريفِ والتنويه والتنبيهِ على اختصاصه به عز وجل وانقيادة لأوامره تعالى مالا يخفى وقرئ على عبادنا والمرادُ هو صلى الله عليه وسلم وأمتُه أو جميعُ الأنبياءِ عليهم السلام ففيه إيذانٌ بأن الارتيابَ فيه ارتيابٌ فيما أنزل مَنْ قبلَه لكونه مصدِّقاً له ومهيمِناً عليه والأمرُ في قولِهِ تعالَى {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ} من باب التعجيز وإلقامِ الحجر كما في قوله تعالى {فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} والفاءُ للجواب وسببيةُ الارتياب للأمر أو الإتيانِ بالمأمور به لما أشير إليه من أنه عبارةٌ عن جزمهم المذكور فإنه سببٌ للأول مطلقاً وللثاني على تقدير الصدقِ كأنَّه قيلَ إنْ كانَ الأمرُ كَما زعمتم من كونه كلامَ البشر فأتوا بمثله لأنكم تقدِرون على ما عليه سائرُ بني نوعِكم والسُورة الطائفةَ من القرآن العظيم المترجمة وأقلها ثلاثُ آيات وواوُها أصليةٌ منقولةٌ من سُور البلد لأنها محيطةٌ بطائفةٍ من القرآن مفرَزةٍ مَحُوزةٍ على حِيالها أو محتويةٍ على فنون رائقةٍ من العلوم احتواءَ سور المدينة على مافيها أو من السَّوْرة التي هي الرتبة قال
ولرهط حرّابٍ وقذّ سَوْرة ... في المجد ليس غرابُها بمُطارِ
فإن سور القرآن مع كونِها في أنفسِها رُتباً من حيث الفضلُ والشرفُ أو من حيث الطولُ والقِصَر فهي من حيث انتظامُها مع أخواتها في المصحف مراتب برتقى إليها القارئ شيئاً فشيئاً وقيل واوها مُبدلةٌ من الهمزة فمعناها البقية من الشئ ولا يخفى ما فيه ومن في قوله {مّن مّثْلِهِ} بيانيةٌ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع صفةً لسورة والضمير لما نزلنا أي بسورة كائنةٍ من مثله في علوّ الرتبة وسموِّ الطبقة والنظمِ الرائق والبيانِ البديع وحيازةِ سائرِ نعوتِ الإعجاز وجعلُها تبعيضيةً يوهم أن له مثلاً محققاً قد أريد تعجيزُهم عن الإتيان ببعضه كأنه قيل فأتوا ببعضِ ما هو مثل له يُفهم منه كونُ المماثلة من تتمة المعجوز عنه فضلاً عن كونها مداراً للعجز مع أنه المراد وبناءُ الأمر على المجاراة معهم بحسب حُسبانِهم حيث كانوا يقولون لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا أو على التهكم بهم يأباه ما سبق من تنزيله منزلةَ الريب فإن مبنى التهكم على تسليم ذلك منهم وتسويفِه ولو بغير جِدّ وقيل هي زائدة على ما هو رأيُ الأخفش بدليل قوله تعالى {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ}{بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ} وقيل هي ابتدائية فالضميرُ حينئذ للمُنْزل عليه حتماً لما أن رجوعَه إلى المنزَلِ يوهم أن له مثلاً محققاً قد ورد الأمرُ التعجيزيُّ بالإتيان بشئ منه وقد عرفتَ ما فيه بخلاف رجوعِه إلى المنزل عليه فإن تحققَ مثلِه عليه السلام في البشرية والعربية والأمية يهوِّن الخطب في الجملة خلا أن تخصيص التحدى يفرد يشاركُه عليه السلام فيما ذكرَ من الصفات المنافية للإيتان بالمأمور به لا يدلُّ على عجز مَنْ ليس كذلك من علمائهم بل ربما يوهم قدرتَهم على ذلك في الجملة فرادى أو مجتمعين مع أنه يستدعي عراءَ المُنْزَل عما فُصِّل من النعوت الموجبةِ لاستحالة وجود مثلِه فأين هذا من تحدي أمةٍ جمّةٍ وأمرِهم بأن يحتشدوا في حلبة المعارضة