التنزيلِ الجليلِ أنه بيانٌ للموصول الأولِ المتناولِ بحسب المفهومِ لأهل الكتابين قد وُسِّط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناءِ ببيان محلِّ التشنيعِ والتعجيبِ والمسارعةِ إلى تنفير المؤمنين منهم وتحذيرِهم عن مخالطتهم والاهتمامِ بحملهم على الثقة بالله عز وجل والاكتفاءِ بولايته ونُصرتِه وأن قولَه تعالى يُحَرّفُونَ وما عُطف عليه بيانٌ لاشترائهم المذكورِ وتفصيلٌ لفنون ضلالتِهم وقدر وعيت في النظم الكريمِ طريقةُ التفسيرَ بعدَ الإبهامِ والتفصيلِ إثر الإجمال وما لزيادة تقريرٍ يقتضيه الحالُ والكَلِمُ اسمُ جنسٍ واحدُه كلِمةٌ كتَمْر وتمرة وتذكيرُ ضميرِه باعتبار إفرادِه لفظاً وجمعيةُ مواضعِه باعتبار تعدُّدِه معنى وقرئ بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفبف كلمة وقرئ يحرِّفون الكلامَ والمرادُ به ههنا إما ما في التوراة خاصةً وإما ما هو أعمُّ منه ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودةِ الصادرةِ عنهم في أثناء المحاورة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مساغَ لإرادة تلك الكلماتِ خاصة بأن يُجعلَ عطفُ قولِه تعالى
{وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} الخ على ما قبله عطفاً تفسيرياً لما ستقف على سره فإن أريد به الأولُ كما هو رأيُ الجمهورِ فتحريفُه إزالتُه عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم في نعت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أسمرُ رَبعةٌ عن موضعه في التوراة بأن وضعوا مكانه آدمُ طُوالٌ وكتحريفهم الرجمَ بوضعهم بدله الحدَّ أو صرفِه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى مالا صِحةَ له بالتأويلات الزائغةِ الملائمةِ لشهواتهم الباطلةِ وإن أُريد به الثاني فلا بد من أن يُرادَ بمواضعه ما يليق به مطلقاً سواءٌ كان ذلك بتعيينه تعالى صريحاً كمواضِعِ ما في التوراة أو بتعيين العقلِ أو الدين كمواضع غيره وأياما كان فقولُهم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ينبغي أن يجريَ على إطلاقه من غير تقييدٍ بزمان أو مكانٍ ولا تخصيصٍ بمادة دون مادةٍ بل وأن يُحمَلَ على ما هو أعمُّ من القول الحقيقيِّ ومما يُترجِم عنه عِنادُهم ومكابَرتُهم ليندرجَ فيه ما نَطقَتْ به ألسنةُ حالِهم عند تحريفِ التوراةِ فإن من لا يتفوّه بتلك العظيمةِ لا يكادُ يتجاسرُ على مثل هذه الجنايةُ وإلا فحملُه على ما قالوه في مجلس النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من القبائح خاصةً يستدعي اختصاصَ حُكمِ الشرطيةِ الآتيةِ وما بعدها بهن من غير تعرُّضٍ لتحريفهم التوراةَ مع أنه معظم جنايتهم المعدودة ومن ههنا انكشف لك السرُّ الموعودُ فتأمل أي يقولون في كل أمرٍ مخالفٍ لأهوائهم الفاسدةِ سواءٌ كان بمحضر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أولا بلسان المقالِ أو الحال سمعنا وعصينا عِناداً وتحقيقاً للمخالفة وقوله تعالى
{واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} عطف على سمِعنا وعصينا داخلٌ تحت القولِ أي ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته صلى الله عليه وسلم خاصةً وهو كلامٌ ذو وجهين محتمِلٌ للشر بأن يحمل على معنى اسمع حالَ كونِك غيرَ مسمَعٍ كلاماً أصلاً بصمم أو موت أي مدعواً عليك بلا سمِعْتَ أو غيرَ مسمَعٍ كلاماً ترضاه فحينئذ يجوز أن يكون نصبُه على المفعولية وللخير بأن يُحمل على اسمَعْ منا غير مسمع مكروها كانوا يخاطبون به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم استهزاءً به مُظْهرين له صلى الله عليه وسلم إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأولَ مطمئنون به
{وراعنا} عطفٌ على اسمَعْ غيرَ مسمَعٍ أي ويقولون في أثناء خطابهم له صلى الله عليه وسلم هذا أيضاً يوردون كلاًّ من العظائمِ الثلاثِ في مواقعها وهي أيضاً كلمةٌ ذاتُ وجهينِ محتملة للخير بحملها على معنى ارقُبْنا وانظرنا نكلمك وللشر يحملها على السبّ بالرُّعونة أي الحَمق أو بإجرائها مجرى ما يُشبِهُها من كلمة عبرانيةٍ أو سريانية كانوا يتسابُّون بها وهي راعينا كانوا يخاطبونه صلى الله عليه وسلم بذلك ينوون الشتيمةَ والإهانةَ ويُظهرون التوقيرَ والاحترامَ ومصيرُهم إلى مسلك النفاقِ في