فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه. فكان يحلب لهم فربما قال للجارية من الحي: يا جارية أتحبين أن أرغي لك أو أصرح؟ فربما قالت: أرغ. وربما قالت: صرح. فأي ذلك قالت فعل.
فمكث كذلك بالسنح ستة أشهر ثم نزل إلى المدينة فأقام بها ونظر في أمره فقال: لا والله ما يصلح أمر الناس التجارة وما يصلح لهم إلا التفرغ والنظر في شأنهم وما بد لعيالي مما يصلحهم. فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم ويحج ويعتمر. وكان الذي فرضوا له كل سنة ستة آلاف درهم. فلما حضرته الوفاة قال: ردوا ما عندنا من مال المسلمين فإني لا أصيب من هذا المال شيئا. وأن أرضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم. فدفع ذلك إلى عمر ولقوح وعبد صيقل وقطيفة ما يساوي خمسة دراهم فقال عمر: لقد أتعب من بعده.
قالوا: واستعمل أبو بكر على الحج سنة إحدى عشرة عمر بن الخطاب. ثم اعتمر أبو بكر في رجب سنة اثنتي عشرة فدخل مكة ضحوة فأتى منزله وأبو قحافة جالس على باب داره معه فتيان أحداث يحدثهم إلى أن قيل له هذا ابنك. فنهض قائما وعجل أبو بكر أن ينيخ راحلته فنزل عنها وهي قائمة فجعل يقول: يا أبت لا تقم. ثم لاقاه فالتزمه وقبل بين عيني أبي قحافة وجعل الشيخ يبكي فرحا بقدومه.
وجاء إلى مكة عتاب بن أسيد وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام فسلموا عليه: سلام عليك يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم سلموا على أبي قحافة فقال أبو قحافة: يا عتيق هؤلاء الملأ فأحسن صحبتهم. فقال أبو بكر: يا أبت لا حول ولا قوة إلا بالله! طوقت عظيما من الأمر لا قوة لي به ولا يدان إلا بالله. ثم دخل فاغتسل وخرج وتبعه أصحابه فنحاهم ثم قال: امشوا على رسلكم. ولقيه الناس يتمشون في وجهه ويعزونه بنبي الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يبكي حتى انتهى إلى البيت فاضطبع بردائه ثم استلم الركن ثم طاف سبعا وركع ركعتين. ثم انصرف إلى منزله. فلما كان الظهر خرج فطاف أيضا بالبيت. ثم جلس قريبا من دار الندوة فقال: هل من أحد يتشكى من ظلامة أو يطلب حقا؟ فما أتاه أحد وأثنى الناس على واليهم خيرا. ثم صلى العصر وجلس فودعه الناس. ثم خرج راجعا إلى المدينة. فلما كان وقت الحج سنة اثنتي عشرة حج أبو بكر بالناس تلك السنة وأفرد الحج واستخلف على المدينة عثمان بن عفان.