للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَوْ قَالَ: أَجَزْته أَوْ أَوْقَعْته لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ أَعَادَ الضَّمِيرَ إلَى غَيْرِ مُعْتَبَرٍ جَوْهَرَةٌ. وَلَوْ قَالَ: أَوْقَعْت ذَلِكَ الطَّلَاقَ

ــ

[رد المحتار]

مَطْلَبٌ فِي طَلَاقِ الْمَدْهُوشِ وَقَالَ فِي الْخَيْرِيَّةِ: غَلِطَ مَنْ فَسَّرَهُ هُنَا بِالتَّحَيُّرِ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ التَّحَيُّرِ وَهُوَ التَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ ذَهَابُ الْعَقْلِ. وَسُئِلَ نَظْمًا فِيمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَهُوَ مُغْتَاظٌ مَدْهُوشٌ، أَجَابَ نَظْمًا أَيْضًا بِأَنَّ الدَّهْشَ مِنْ أَقْسَامِ الْجُنُونِ فَلَا يَقَعُ، وَإِذَا كَانَ يَعْتَادُهُ بِأَنْ عُرِفَ مِنْهُ الدَّهَشُ مَرَّةً يُصَدَّقُ بِلَا بُرْهَانٍ. اهـ. قُلْت: وَلِلْحَافِظِ ابْنِ الْقَيِّمِ الْحَنْبَلِيِّ رِسَالَةٌ فِي طَلَاقِ الْغَضْبَانِ قَالَ فِيهَا: إنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَبَادِئُ الْغَضَبِ بِحَيْثُ لَا يَتَغَيَّرُ عَقْلُهُ وَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَيَقْصِدُهُ، وَهَذَا لَا إشْكَالَ فِيهِ. وَالثَّانِي أَنْ يَبْلُغَ النِّهَايَةَ فَلَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَلَا يُرِيدُهُ، فَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِهِ.

الثَّالِثُ مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ بِحَيْثُ لَمْ يَصِرْ كَالْمَجْنُونِ فَهَذَا مَحَلُّ النَّظَرِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى عَدَمِ نُفُوذِ أَقْوَالِهِ. اهـ. مُلَخَّصًا مِنْ شَرْحِ الْغَايَةِ الْحَنْبَلِيَّةِ، لَكِنْ أَشَارَ فِي الْغَايَةِ إلَى مُخَالَفَتِهِ فِي الثَّالِثِ حَيْثُ قَالَ: وَيَقَعُ الطَّلَاقُ مِنْ غَضَبٍ خِلَافًا لِابْنِ الْقَيِّمِ اهـ وَهَذَا الْمُوَافِقُ عِنْدَنَا لِمَا مَرَّ فِي الْمَدْهُوشِ، لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّا لَمْ نَعْتَبِرْ أَقْوَالَ الْمَعْتُوهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يَصِلَ إلَى حَالَةٍ لَا يَعْلَمُ فِيهَا مَا يَقُولُ وَلَا يُرِيدُهُ وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمَعْتُوهَ لَمَّا كَانَ مُسْتَمِرًّا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا اُعْتُبِرَتْ فِيهِ وَاكْتُفِيَ فِيهِ بِمُجَرَّدِ نَقْصِ الْعَقْلِ، بِخِلَافِ الْغَضَبِ فَإِنَّهُ عَارِضٌ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ الدَّهَشُ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَدْهُوشِ وَالْغَضْبَانِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ بَلْ يُكْتَفَى فِيهِ بِغَلَبَةِ الْهَذَيَانِ وَاخْتِلَاطِ الْجَدِّ بِالْهَزْلِ كَمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي السَّكْرَانِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَا يُنَافِيهِ تَعْرِيفُ الدَّهَشِ بِذَهَابِ الْعَقْلِ فَإِنَّ الْجُنُونَ فُنُونٌ، وَلِذَا فَسَّرَهُ فِي الْبَحْرِ بِاخْتِلَالِ الْعَقْلِ وَأَدْخَلَ فِيهِ الْعَتَهَ وَالْبِرْسَامَ وَالْإِغْمَاءَ وَالدَّهَشَ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا قُلْنَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْعَاقِلُ مَنْ يَسْتَقِيمُ كَلَامُهُ وَأَفْعَالُهُ إلَّا نَادِرًا، وَالْمَجْنُونُ ضِدُّهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ بَعْضَ الْمَجَانِينِ يَعْرِفُ مَا يَقُولُ وَيُرِيدُهُ وَيَذْكُرُ مَا يَشْهَدُ الْجَاهِلُ بِهِ بِأَنَّهُ عَاقِلٌ ثُمَّ يَظْهَرُ مِنْهُ فِي مَجْلِسِهِ مَا يُنَافِيهِ، فَإِذَا كَانَ الْمَجْنُونُ حَقِيقَةً قَدْ يَعْرِفُ مَا يَقُولُ وَيَقْصِدُهُ فَغَيْرُهُ بِالْأَوْلَى، فَاَلَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي الْمَدْهُوشِ وَنَحْوِهِ إنَاطَةُ الْحُكْمِ بِغَلَبَةِ الْخَلَلِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَتِهِ، وَكَذَا يُقَالُ فِيمَنْ اخْتَلَّ عَقْلُهُ لِكِبَرٍ أَوْ لِمَرَضٍ أَوْ لِمُصِيبَةٍ فَاجَأَتْهُ: فَمَا دَامَ فِي حَالِ غَلَبَةِ الْخَلَلِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لَا تُعْتَبَرُ أَقْوَالُهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُهَا وَيُرِيدُهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ وَالْإِرَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِعَدَمِ حُصُولِهَا عَنْ الْإِدْرَاكِ صَحِيحٌ كَمَا لَا تُعْتَبَرُ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، نَعَمْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا سَيَأْتِي فِي التَّعْلِيقِ عَنْ الْبَحْرِ. وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْفَتْحِ وَالْخَانِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ: لَوْ طَلَّقَ فَشَهِدَ عِنْدَهُ اثْنَانِ أَنَّك اسْتَثْنَيْت وَهُوَ غَيْرُ ذَاكِرٍ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ إذَا غَضِبَ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ وَسِعَهُ الْأَخْذُ بِشَهَادَتِهِمَا وَإِلَّا لَا اهـ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ يَقَعُ طَلَاقُهُ وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ إلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِهِمَا إنَّك اسْتَثْنَيْت، وَهَذَا مُشْكِلٌ جِدًّا، وَإِلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ أَنَّهُ لِقُوَّةِ غَضَبِهِ قَدْ يَنْسَى مَا يَقُولُ وَلَا يَتَذَكَّرُهُ بَعْدُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ صَارَ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مَا لَا يَفْهَمُهُ أَوْ لَا يَقْصِدُهُ إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْجُنُونِ، وَيُؤَيِّدُهُ هَذَا الْحَمْلُ أَنَّهُ فِي هَذَا الْفَرْعِ عَالِمٌ بِأَنَّهُ طَلَّقَ وَهُوَ قَاصِدٌ لَهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَتَذَكَّرْ الِاسْتِثْنَاءَ لِشِدَّةِ غَضَبِهِ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَحْرِيرِ هَذَا الْمَقَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ ثُمَّ رَأَيْت مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْجَوَابَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْوَلْوَالِجيَّةِ: إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ غَضِبَ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مَا لَا يَحْفَظُهُ بَعْدَهُ جَازَ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ، فَقَوْلُهُ لَا يَحْفَظُهُ بَعْدَهُ صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَعَادَ الضَّمِيرَ إلَى غَيْرِ مُعْتَبَرٍ) أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ كَلَامِ الصَّبِيِّ وَبَيْنَ كَلَامِ النَّائِمِ هُوَ أَنَّ كَلَامَ الصَّبِيِّ مُعْتَبَرٌ فِي اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الشَّارِعَ أَلْغَاهُ، بِخِلَافِ كَلَامِ النَّائِمِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ أَحَدٍ. اهـ. ح.

<<  <  ج: ص:  >  >>