وَمَا نُقِلَ: لَا تُسَوِّدُونِي فِي الصَّلَاةِ فَكَذِبٌ، وَقَوْلُهُمْ لَا تُسَيِّدُونِي بِالْيَاءِ لَحْنٌ أَيْضًا وَالصَّوَابُ بِالْوَاوِ؛ وَخُصَّ إبْرَاهِيمُ لِسَلَامِهِ عَلَيْنَا، أَوْ لِأَنَّهُ سَمَّانَا الْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ صَلَاةٌ يَتَّخِذُهُ بِهَا خَلِيلًا، وَعَلَى الْأَخِيرِ فَالتَّشْبِيهُ ظَاهِرٌ أَوْ رَاجِعٌ لِآلِ مُحَمَّدٍ، أَوْ الْمُشَبَّهُ بِهِ قَدْ يَكُونُ أَدْنَى مِثْلُ - {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور: ٣٥]
ــ
[رد المحتار]
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِنَا لِمَا مَرَّ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ زَادَ فِي تَشَهُّدِهِ أَوْ نَقَصَ فِيهِ كَانَ مَكْرُوهًا. قُلْت: فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ زَائِدَةٌ عَلَى التَّشَهُّدِ لَيْسَتْ مِنْهُ، نَعَمْ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا عَدَمُ ذِكْرِهَا فِي " وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " وَأَنَّهُ يَأْتِي بِهَا مَعَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (قَوْلُهُ لَحْنٌ أَيْضًا) أَيْ مَعَ كَوْنِهِ كَذِبًا (قَوْلُهُ وَالصَّوَابُ بِالْوَاوِ) لِأَنَّهُ وَاوِيُّ الْعَيْنِ مِنْ سَادَ يَسُودُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ ... أَبَى اللَّهُ أَنْ أَسْمُوَ بِأُمٍّ وَلَا أَبِ
مَطْلَبٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّشْبِيهِ فِي كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ (قَوْلُهُ وَخُصَّ إبْرَاهِيمُ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ لِمَ خُصَّ التَّشْبِيهُ بِإِبْرَاهِيمَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ الْكِرَامِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؟ فَأَجَابَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ:
الْأَوَّلُ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَيْنَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ حَيْثُ قَالَ «أَبْلِغْ أُمَّتَك مِنِّي السَّلَامَ» وَالثَّانِي أَنَّهُ سَمَّانَا الْمُسْلِمِينَ كَمَا أَخْبَرَنَا عَنْهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: ٧٨]- أَيْ بِقَوْلِهِ - {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: ١٢٨]- وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَذُرِّيَّةِ إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، فَقَصَدْنَا إظْهَارَ فَضْلِهِ مُجَازَاةً عَلَى هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ مِنْهُ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ صَلَاةٌ يَتَّخِذُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَلِيلًا، وَقَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَ عِبَادِهِ، فَاِتَّخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَلِيلًا أَيْضًا؛ فَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ» وَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ أُخَرَ: مِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ لِأُبُوَّتِهِ، وَالتَّشْبِيهُ فِي الْفَضَائِلِ بِالْآبَاءِ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَلِرِفْعَةِ شَأْنِهِ فِي الرُّسُلِ، وَكَوْنِهِ أَفْضَلَ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الرَّاجِحِ وَلِمُوَافَقَتِنَا إيَّاهُ فِي مَعَالِمِ الْمِلَّةِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: ٧٨] وَلِدَوَامِ ذِكْرِهِ الْجَمِيلِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: ٨٤] وَلِلْأَمْرِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: ١٢٣] (قَوْلُهُ وَعَلَى الْأَخِيرِ إلَخْ) أَيْ الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَهَذَا أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ السُّؤَالِ الْمَشْهُورِ الَّذِي يُورِدُهُ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَهُوَ: أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ أَعْلَى مِنْ الْمُشَبَّهِ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ مَعَ أَنَّ الْقَدْرَ الْحَاصِلَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْبَرَكَةِ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِآلِهِ أَعْلَى مِنْ الْحَاصِلِ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَآلِهِ بِدَلَالَةِ رِوَايَةِ النَّسَائِيّ «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَحُطَّ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ» .
وَلَمْ يَرِدْ فِي حَقِّ إبْرَاهِيمَ أَوْ غَيْرِهِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاةٌ خَاصَّةٌ يَكُونُ بِهَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلِيلًا كَمَا اُتُّخِذَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلًا، أَوْ التَّشْبِيهُ رَاجِعٌ لِقَوْلِنَا «وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ» أَوْ أَنَّ هَذَا مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ فَإِنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ قَدْ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِلْمُشَبَّهِ أَوْ أَدْنَى مِنْهُ لَكِنَّهُ يَكُونُ أَوْضَحَ لِكَوْنِهِ حِسِّيًّا مُشَاهَدًا، أَوْ لِكَوْنِهِ مَشْهُورًا فِي وَجْهِ الشَّبَهِ، فَالْأَوَّلُ نَحْوُ {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور: ٣٥] وَأَيْنَ يَقَعُ نُورُ الْمِشْكَاةِ مِنْ نُورِهِ تَعَالَى؟ وَالثَّانِي كَمَا هُنَا، فَإِنَّ تَعْظِيمَ إبْرَاهِيمَ وَآلِهِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَاضِحٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَحَسُنَ التَّشْبِيهُ لِذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ خَتْمُ هَذَا الطَّلَبِ بِقَوْلِهِ: «فِي الْعَالَمِينَ» ، وَتَمَامُهُ فِي الْحِلْيَةِ. وَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ أُخَرَ: مِنْ أَحْسَنِهَا أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ لَا فِي الْقَدْرِ كَمَا فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute