حَدِيثِ أَبِي دَاوُد «مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» .
ــ
[رد المحتار]
يَقُومُ بِالذَّاكِرِ وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ شَتْمًا فِي حَقِّ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ فَيُعْتَبَرُ مَكَانُ الْفَاعِلِ. وَأَمَّا الْقَتْلُ وَالضَّرْبُ وَنَحْوُهُمَا فِي مَكَان فَيَتَحَقَّقُ بِكَوْنِ الْمَفْعُولِ بِهِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ الْفَاعِلُ فِيهِ أَيْضًا أَمْ لَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَهَا آثَارٌ تَقُومُ بِالْمَحَلِّ، فَيُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمَفْعُولِ بِهِ وَهُوَ الْمَحَلُّ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ دُونَ الْفَاعِلِ لِأَنَّ مَنْ ذَبَحَ شَاةً هِيَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ خَارِجُهُ يُسَمَّى ذَابِحًا فِي الْمَسْجِدِ بِخِلَافِ عَكْسِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّامِيَ إلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ يَكُونُ قَاتِلًا لِلصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ وَإِنْ كَانَ حَالَ الرَّمْيِ فِي الْحِلِّ اهـ مُلَخَّصًا، وَتَمَامُ تَحْقِيقِهِ هُنَاكَ فَرَاجِعْهُ. إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَلَا يَخْفَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ فِعْلٌ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمَفْعُولِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِالْمُصَلِّي، فَقَوْلُهُ مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَيِّتُ فِيهِ أَوْ لَا، فَيُكْرَهُ ذَلِكَ أَخْذًا مِنْ مَنْطُوقِ الْحَدِيثِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ فِي رِسَالَتِهِ مِنْ أَنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَعَى النَّجَاشِيَّ إلَى أَصْحَابِهِ خَرَجَ فَصَلَّى عَلَيْهِ فِي الْمُصَلَّى» قَالَ: وَلَوْ جَازَتْ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَكُنْ لِلْخُرُوجِ مَعْنًى اهـ مَعَ أَنَّ الْمَيِّتَ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ.
وَبَقِيَ مَا إذَا كَانَ الْمُصَلِّي خَارِجَهُ وَالْمَيِّتُ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَتِهِ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ عِنْدَنَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، لِأَنَّهُ إذَا كُرِهَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِيهِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ ذِكْرٌ وَدُعَاءٌ يُكْرَهُ إدْخَالُهُ فِيهِ بِالْأَوْلَى لِأَنَّهُ عَبَثٌ مَحْضٌ وَلَا سِيَّمَا عَلَى كَوْنِ عِلَّةِ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ خَشِيَتْ تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ.
وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ ظَهَرَ أَنَّ الْحَدِيثَ مُؤَيِّدٌ لِلْقَوْلِ الْمُخْتَارِ مِنْ إطْلَاقِ الْكَرَاهَةِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، فَاغْتَنِمْ هَذَا التَّحْرِيرَ الْفَرِيدَ فَإِنَّهُ مِمَّا فَتَحَ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى أَضْعَفِ خَلْقِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ (قَوْلُهُ «فَلَا صَلَاةَ لَهُ» ) هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَرِوَايَةُ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد «فَلَا شَيْءَ لَهُ» " وَابْنِ مَاجَهْ «فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ» وَرَوَى «فَلَا أَجْرَ لَهُ» وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هِيَ خَطَأٌ فَاحِشٌ، وَالصَّحِيحُ «فَلَا شَيْءَ لَهُ» وَتَمَامُهُ فِي حَاشِيَةِ نُوحٍ أَفَنْدِي وَالْمَدَنِيِّ، وَلَيْسَ الْحَدِيثُ نَهْيًا غَيْرَ مَصْرُوفٍ وَلَا مَقْرُونًا بِوَعِيدٍ لِأَنَّ سَلْبَ الْأَجْرِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ لِجَوَازِ الْإِبَاحَةِ.
وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الصَّلَاةَ نَفْسَهَا سَبَبٌ مَوْضُوعٌ لِلثَّوَابِ فَسَلْبُهُ مَعَ فِعْلِهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ إثْمٍ يُقَاوِمُ ذَلِكَ وَفِيهِ نَظَرٌ، كَذَا فِي الْفَتْحِ، وَكَذَا يُقَالُ فِي رِوَايَةٍ " فَلَا صَلَاةَ لَهُ " لِأَنَّهُ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ فَهِيَ مِثْلُ «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» بَلْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَقْرَبُ: أَيْ لَا صَلَاةَ كَامِلَةٌ، فَلَا تُنَافِي ثُبُوتَ أَصْلِ الثَّوَابِ. وَبِهِ انْدَفَعَ مَا فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ تُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ. [تَتِمَّةٌ]
إنَّمَا تُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ بِلَا عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَ فَلَا، وَمِنْ الْأَعْذَارِ الْمَطَرُ كَمَا فِي الْخَانِيَّةِ وَالِاعْتِكَافُ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ، كَذَا فِي الْحِلْيَةِ وَغَيْرِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ اعْتِكَافُ الْوَلِيِّ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ لَهُ حَقُّ التَّقَدُّمِ، وَلِغَيْرِهِ الصَّلَاةُ مَعَهُ تَبَعًا لَهُ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا يُصَلِّيَهَا غَيْرُهُ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ إثْمَ الْإِدْخَالِ وَالصَّلَاةِ ارْتَفَعَ بِالْعُذْرِ تَأَمَّلْ، وَانْظُرْ هَلْ يُقَالُ: إنَّ مِنْ الْعُذْرِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي بِلَادِنَا مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ لِتَعَذُّرِ غَيْرِهِ أَوْ تَعَسُّرِهِ بِسَبَبِ انْدِرَاسِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي عَلَيْهَا فِيهَا، فَمَنْ حَضَرَهَا فِي الْمَسْجِدِ إنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهَا مَعَ النَّاسِ لَا يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِهِ، وَلَزِمَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ فِي عُمُرِهِ عَلَى جِنَازَةٍ، نَعَمْ قَدْ تُوضَعُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فِي الشَّارِعِ فَيُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ فَسَادُهَا مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُصَلِّينَ لِعُمُومِ النَّجَاسَةِ وَعَدَمِ خَلْعِهِمْ نِعَالَهُمْ الْمُتَنَجِّسَةَ مَعَ أَنَّا قَدَّمْنَا كَرَاهَتَهَا فِي الشَّارِعِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute