للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [١٩ \ ٢١] ، قِيلَ أُمِرَتْ أَنْ تَقُولَ ذَلِكَ بِاللَّفْظِ، وَقِيلَ أُمِرَتْ أَنْ تَقُولَهُ بِالْإِشَارَةِ، وَكَوْنُهَا أُمِرَتْ أَنْ تَقُولَهُ بِاللَّفْظِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ; كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ الْآيَةَ، أَنَّهُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَقُولَ ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ بِأَنَّهَا لَوْ قَالَتْهُ بِاللَّفْظِ أَفْسَدَتْ نَذْرَهَا الَّذِي نَذَرَتْهُ أَلَّا تُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، فَإِذَا قَالَتْ لِإِنْسِيٍّ بِلِسَانِهَا: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، فَقَدْ كَلَّمَتْ ذَلِكَ الْإِنْسِيَّ فَأَفْسَدَتْ نَذْرَهَا، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْأَخِيرَ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، الْمُرَادُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ لَا أَنَّ الْمُرَادَ الْقَوْلُ اللَّفْظِيُّ لِئَلَّا يُنَافِيَ فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمَعْنَى فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا بَعْدَ قَوْلِي: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَقَدْ رَأَيْتَ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَأَنَّ الثَّانِيَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْكَلَامِ لِلْإِنْسِيِّ مُطْلَقًا، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: وَقَوْلُهُ «إِنْسِيًّا» لِأَنَّهَا كَانَتْ تُكَلِّمُ الْمَلَائِكَةَ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ قَوْلَهُ «إِنْسِيًّا» لَهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، أَيْ: بِخِلَافِ غَيْرِ الْإِنْسِيِّ كَالْمَلَائِكَةِ فَإِنِّي أُكَلِّمُهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ فِي الْكَلَامِ إِخْرَاجَ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ شُمُولُ نَفْيِ الْكَلَامِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ.

مَسْأَلَةٌ.

اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، أَيْ: قُولِي ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ ; لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُمِّيَتْ قَوْلًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَسُمِعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرًا إِطْلَاقُ الْكَلَامِ عَلَى الْإِشَارَةِ، كَقَوْلِهِ:

إِذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفَوَاتِرِ ... رَدَدْتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ

وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَدُلُّ مِنَ النُّصُوصِ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ الْمُفْهِمَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ، وَمَا يَدُلُّ مِنَ النُّصُوصِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْكَلَامِ، وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ.

اعْلَمْ أَنَّهُ دَلَّتْ أَدِلَّةٌ عَلَى قِيَامِ الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مَقَامَ الْكَلَامِ، وَجَاءَتْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى يُفْهَمُ

<<  <  ج: ص:  >  >>