مِنْهَا خِلَافُ ذَلِكَ، فَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى قِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْكَلَامِ قِصَّةُ الْأَمَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ اللَّهُ» ؟ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» فَجَعَلَ إِشَارَتَهَا كَنُطْقِهَا فِي الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّيَانَاتِ، وَهُوَ الَّذِي يُعْصَمُ بِهِ الدَّمُ وَالْمَالُ، وَتُسْتَحَقُّ بِهِ الْجَنَّةُ، وَيُنَجَّى بِهِ مِنَ النَّارِ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ، وَالشَّرِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِمْ أَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ أَخْبَرَنِي الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً. فَقَالَ لَهَا: «أَيْنَ اللَّهُ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ بِإِصْبَعِهَا فَقَالَ لَهَا:» فَمَنْ أَنَا «؟ فَأَشَارَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى السَّمَاءِ، يَعْنِي أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ:» أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ «، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهَا أَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْإِشَارَةِ، عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ ; لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَالرِّوَايَاتُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ» آلِ عِمْرَانَ «فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [٣ \ ٤١] ، مَا نَصُّهُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّنَّةِ، وَآكَدُ الْإِشَارَاتِ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ السَّوْدَاءِ حِينَ قَالَ لَهَا:» أَيْنَ اللَّهُ «؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ:» أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ «فَأَجَازَ الْإِسْلَامَ بِالْإِشَارَةِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي يُحْرَزُ بِهِ الدَّمُ وَالْمَالُ، وَتُسْتَحَقُّ بِهِ الْجَنَّةُ وَيُنَجَّى بِهِ مِنَ النَّارِ، وَحَكَمَ بِإِيمَانِهَا كَمَا يَحْكُمُ بِنُطْقِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ عَامِلَةً فِي سَائِرِ الدِّيَانَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْأَخْرَسَ إِذَا أَشَارَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّجُلِ يَمْرَضُ فَيَخْتَلُّ لِسَانُهُ: فَهُوَ كَالْأَخْرَسِ فِي الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا كَانَتْ إِشَارَتُهُ تَعْرَفُ، وَإِنْ شُكَّ فِيهَا فَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا تُعْقَلُ إِشَارَتُهُ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْكَلَامِ فِي أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute