الظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّ وَجْهَ ذِكْرِهِمْ لِلْمَقَامِ وَالنَّدِيِّ: أَنَّ الْمَقَامَ هُوَ مَحِلُّ السُّكْنَى الْخَاصُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَالنَّدِيَّ مَحِلُّ اجْتِمَاعِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْكُفَّارِ أَحْسَنَ مِنْ نَظِيرِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ نَصِيبَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَوْفَرُ مِنْ نَصِيبِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَوْمَانِ يَوْمُ مُقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إِلَى الْأَعْدَاءِ تَأْوِيبِ
وَالْمَقَامَاتُ: جَمْعُ مَقَامَةٍ بِمَعْنَى الْمَقَامِ، وَالْأَنْدِيَةُ: جَمْعُ نَادٍ بِمَعْنَى النَّدِيِّ، وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَوْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [٢٩ \ ٢٩] ، فَالنَّادِي وَالنَّدِيُّ يُطْلَقَانِ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَعَلَى الْقَوْمِ الْجَالِسِينَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْلِسُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْمِ الْجَالِسِينَ، وَمِنْ إِطْلَاقِ النَّدِيِّ عَلَى الْمَكَانِ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
وَمَا قَامَ مِنَّا قَائِمٌ فِي نَدِيِّنَا ... فَيَنْطِقَ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَعْرَفُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَأَحْسَنُ نَدِيًّا.
وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْقَوْمِ قَوْلُهُ: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [٩٦ \ ١٧ - ١٨] ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمَجْلِسِ عَلَى الْقَوْمِ الْجَالِسِينَ فِيهِ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
لَهُمْ مَجْلِسٌ صُهْبُ السِّبَالِ ... أَذِلَّةٌ سَوَاسِيَةٌ أَحْرَارُهَا وَعَبِيدُهَا
وَالْجُمْلَةُ فِي قَوْلِهِ: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ فِي مَحِلِّ نَصْبِ صِفَةٍ لِقَوْلِهِ: «كَمْ» أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ تَرَكْتَ لَفْظَةَ «هُمْ» لَمْ يَكُنْ لَكَ بُدٌّ مِنْ نَصْبِ أَحْسَنُ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ. اهـ. وَتَابَعَ الزَّمَخْشَرِيَّ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَتَعَقَّبَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ بِأَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءَ النَّحْوِ نَصُّوا عَلَى أَنَّ «كَمْ» سَوَاءٌ كَانَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً أَوْ خَبَرِيَّةً لَا تُوصَفُ وَلَا يُوصَفُ بِهَا، قَالَ: وَعَلَى هَذَا يَكُونُ هُمْ أَحْسَنُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ قَرْنٍ وَجُمِعَ نَعْتُ الْقَرْنِ اعْتِبَارًا لِمَعْنَى الْقَرْنِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدِي لَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا، تَلْزَمُهَا «مِنْ» لِتَجَرُّدِهَا مِنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْرِيفِ، إِلَّا أَنَّهَا مَحْذُوفَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرَئْيًا مِنْهُمْ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ صِلْهُ أَبَدَا تَقْدِيرًا أَوْ لَفْظًا بِمَنْ إِنْ جُرِّدَا فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا؟ الْآيَةُ [١٩ \ ٧٣] ، فَالْجَوَابٌ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute