للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْأَقْسَامِ الْبَاطِلَةِ أَخْذُهَا ; لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الِانْحِطَاطِ الْخُلُقِيِّ وَضَيَاعِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمُثُلِ الْعُلْيَا لِلْإِنْسَانِيَّةِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ أُبَيِّنَهُ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا فِيهَا مِنَ التَّمَرُّدِ عَلَى نِظَامِ السَّمَاءِ، وَعَدَمِ طَاعَةِ خَالِقِ هَذَا الْكَوْنِ جَلَّ وَعَلَا: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [١٠ \ ٥٩] ، أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [٤٢ \ ٢١] ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْبَاطِلَةِ هُوَ أَخْذُ الضَّارِّ وَتَرْكُ النَّافِعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَهُ أَقَلُّ تَمْيِيزٍ، فَتَعَيَّنَتْ صِحَّةُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ بِالتَّقْسِيمِ وَالسَّبْرِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ أَخْذُ النَّافِعِ وَتَرْكُ الضَّارِّ.

وَهَكَذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ، فَقَدِ انْتَفَعَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ خُطَّةٌ عَسْكَرِيَّةٌ كَانَتْ لِلْفُرْسِ، أَخْبَرَهُ بِهَا سَلْمَانُ فَأَخَذَ بِهَا، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهَا لِلْكُفَّارِ، وَقَدْ هَمَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَمْنَعَ وَطْءَ النِّسَاءِ الْمَرَاضِعِ خَوْفًا عَلَى أَوْلَادِهِنَّ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْغِيلَةَ - وَهِيَ وَطْءُ الْمُرْضِعِ - تُضْعِفُ وَلَدَهَا وَتَضُرُّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعٍ ... فَتَنْبُو فِي أَكُفِّهِمُ السُّيُوفُ

فَأَخْبَرَتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارِسُ وَالرُّومُ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ، فَأَخَذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ تِلْكَ الْخُطَّةَ الطِّبِّيَّةَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهَا مِنَ الْكُفَّارِ.

وَقَدِ انْتَفَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَالَةِ ابْنِ الْأُرَيْقِطِ الدُّؤَلِيِّ لَهُ فِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ عَلَى الطَّرِيقِ، مَعَ أَنَّهُ كَافِرٌ.

فَاتَّضَحَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الْمَوْقِفَ الطَّبِيعِيَّ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ هُوَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي تَحْصِيلِ مَا أَنْتَجَتْهُ مِنَ النَّوَاحِي الْمَادِّيَّةِ، وَيَحْذَرُوا مِمَّا جَنَتْهُ مِنَ التَّمَرُّدِ عَلَى خَالِقِ الْكَوْنِ جَلَّ وَعَلَا فَتَصْلُحَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَالْمُؤْسِفُ أَنَّ أَغْلَبَهُمْ يَعْكِسُونَ الْقَضِيَّةَ، فَيَأْخُذُونَ مِنْهَا الِانْحِطَاطَ الْخُلُقِيَّ، وَالِانْسِلَاخَ مِنَ الدِّينِ، وَالتَّبَاعُدَ مِنْ طَاعَةِ خَالِقِ الْكَوْنِ، وَلَا يَحْصُلُونَ عَلَى نَتِيجَةٍ مِمَّا فِيهَا مِنَ النَّفْعِ الْمَادِّيِّ، فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.

وَمَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالْإِفْلَاسَ بِالرَّجُلِ وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا نَافِعًا فِي كَوْنِ الدِّينِ لَا يُنَافِي التَّقَدُّمَ الْمَادِّيَّ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [١٧ \ ٩] ، فَأَغْنَى ذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>