مَا بَيَّنَّا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ السِّحْرَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ خَفِيَ سَبَبُهُ وَلَطُفَ وَدَقَّ. وَلِذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ فِي الشَّيْءِ الشَّدِيدِ الْخَفَاءِ: أَخْفَى مِنَ السِّحْرِ. وَمِنْهُ قَوْلُ مُسْلِمِ بْنِ الْوَلِيدِ الْأَنْصَارِيِّ:
جَعَلْتِ عَلَامَاتِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَنَا مَصَائِدَ ... لَحْظٍ هُنَّ أَخْفَى مِنَ السِّحْرِ
فَأَعْرِفُ مِنْهَا الْوَصْلَ فِي لِينِ طَرْفِهَا ... وَأَعْرِفُ مِنْهَا الْهَجْرَ فِي النَّظَرِ الشَّزْرِ
وَلِهَذَا قِيلَ لِمَلَاحَةِ الْعَيْنَيْنِ: سِحْرٌ. لِأَنَّهَا تُصِيبُ الْقُلُوبَ بِسِهَامِهَا فِي خَفَاءٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي شَبَّبَتْ بِنَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ السُّلَمِيِّ:
وَانْظُرْ إِلَى السِّحْرِ يَجْرِي فِي لَوَاحِظِهِ ... وَانْظُرْ إِلَى دَعَجٍ فِي طَرْفِهِ السَّاجِي
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ السِّحْرَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يُمْكِنُ حَدُّهُ بِحَدٍّ جَامِعٍ مَانِعٍ. لِكَثْرَةِ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا يَكُونُ جَامِعًا لَهَا مَانِعًا لِغَيْرِهَا. وَمِنْ هُنَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِّهِ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ فِي تَفْسِيرِهِ قَسَّمَ السِّحْرَ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: سِحْرُ الْكِلْدَانِيِّينَ، وَالْكَسْدَائِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ، وَمِنْهَا تَصْدُرُ الْخَيْرَاتُ، وَالشُّرُورُ، وَالسَّعَادَةُ، وَالنُّحُوسَةُ، وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبْطِلًا لِمَقَالَتِهِمْ وَرَادًّا عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ السِّحْرِ كُفْرٌ بِلَا خِلَافٍ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَرَّبُونَ فِيهِ لِلْكَوَاكِبِ كَمَا يَتَقَرَّبُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى اللَّهِ، وَيَرْجُونَ الْخَيْرَ مِنْ قِبَلِ الْكَوَاكِبِ وَيَخَافُونَ الشَّرَّ مِنْ قِبَلِهَا كَمَا يَرْجُو الْمُسْلِمُونَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَهُ. فَهُمْ كَفَرَةٌ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى الْكَوَاكِبِ فِي سِحْرِهِمْ بِالْكُفْرِ الْبَوَاحِ.