للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَا بِالتَّضَادِّ. وَكَقَوْلِ الْبُحْتُرِيَّ يَصِفُ الْإِبِلَ الْأَنْضَاءَ الْمَهَازِيلَ، أَوِ الرِّمَاحَ:

كَالْقِسِيِّ الْمُعَطَّفَاتِ بَلِ ... الْأَسْهُمِ مَبْرِيَّةٍ بَلِ الْأَوْتَارِ

وَبَيْنَ الْأَسْهُمِ، وَالْقِسِيِّ الْمُعَطَّفَاتِ، وَالْأَوْتَارِ مُنَاسَبَةٌ فِي الرِّقَّةِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَرَقَّ مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لَا بِالتَّضَادِّ. وَكَقَوْلِ ابْنِ رَشِيقٍ:

أَصَحُّ وَأَقْوَى مَا سَمِعْنَاهُ فِي النَّدَى ... مِنَ الْخَبَرِ الْمَأْثُورِ مُنْذُ قَدِيمِ

أَحَادِيثُ تَرْوِيهَا السُّيُولُ عَنِ الْحَيَا ... عَنِ الْبَحْرِ عَنْ كَفِّ الْأَمِيرِ تَمِيمِ

فَقَدْ نَاسَبَ بَيْنَ الصِّحَّةِ، وَالْقُوَّةِ، وَالسَّمَاعِ، وَالْخَبَرِ الْمَأْثُورِ، وَالْأَحَادِيثِ، وَالرِّوَايَةِ، وَكَذَا نَاسَبَ بَيْنَ السَّيْلِ، وَالْحَيَا وَهُوَ الْمَطَرُ، وَالْبَحْرِ وَكَفِّ الْأَمِيرِ تَمِيمٍ، وَكَقَوْلِ أُسَيْدِ بْنِ عَنْقَاءَ الْفَزَارِيِّ:

كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي جَبِينِهِ ... وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَى وَفِي وَجْهِهِ الْبَدْرُ

فَقَدْ نَاسَبَ بَيْنَ الثُّرَيَّا، وَالشِّعْرَى، وَالْبَدْرِ، كَمَا نَاسَبَ بَيْنَ الْجَبِينِ، وَالْوَجْنَةِ، وَالْوَجْهِ. وَأَمْثِلَةُ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي فَنِّ الْبَلَاغَةِ.

وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَاسَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى بَيْنَ نَفْيِ الْجُوعِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْحَرَارَةِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَالْأَلَمِ الْبَاطِنِيِّ الْوِجْدَانِيِّ، وَبَيْنَ نَفْيِ الْعُرْيِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الظَّاهِرِيِّ مِنْ أَذَى الْحَرِّ، وَالْبَرْدِ، وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لَا بِالتَّضَادِّ. كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى نَاسَبَ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى بَيْنَ نَفْيِ الظَّمَأِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الْبَاطِنِيِّ الْوِجْدَانِيِّ الَّذِي يُسَبِّبُهُ الظَّمَأُ. وَبَيْنَ نَفْيِ الضُّحَى الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الظَّاهِرِيِّ الَّذِي يُسَبِّبُهُ حَرُّ الشَّمْسِ وَنَحْوُهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.

بِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا يُسَمَّى قَطْعَ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ، وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ قَطْعِ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ الْمَزْعُومِ تَحْقِيقُ تَعْدَادِ هَذِهِ النِّعَمِ وَتَكْثِيرِهَا. لِأَنَّهُ لَوْ قَرَنَ النَّظِيرَ بِنَظِيرِهِ لَأَوْهَمَ أَنَّ الْمَعْدُودَاتِ نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِهَذَا قَطَعَ الظَّمَأَ عَنِ الْجُوعِ، وَالضَّحْوَ عَنِ الْكُسْوَةِ، مَعَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ التَّنَاسُبِ. وَقَالُوا: وَمِنْ قَطْعِ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ الْمَذْكُورِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ ... وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ

وَلَمْ أَسْبَأِ الزِّقَ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ ... لِخَيْلٍ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ

فَقَطَعَ رُكُوبَ الْجَوَادِ مِنْ قَوْلِهِ «لِخَيْلٍ كُرِّي كَرَّةً» وَقَطَعَ «تَبَطُّنَ الْكَاعِبِ» عَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>