للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْبَقَرَةِ: أَنَّ إِسْمَاعِيلَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ أَيْضًا مَعَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْمَعْنَى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَلَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ الْآيَةَ.

فَاعْلَمْ أَنَّ فِي «أَنْ» وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، وَعَلَيْهِ فَتَطْهِيرُ الْبَيْتِ مِنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ هُوَ تَفْسِيرُ الْعَهْدِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ؛ أَيْ: وَالْعَهْدُ هُوَ إِيصَاؤُهُ بِالتَّطْهِيرِ الْمَذْكُورِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى دُخُولِ «أَنْ» الْمَصْدَرِيَّةِ عَلَى الْأَفْعَالِ الطَّلَبِيَّةِ.

وَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ مُفَسِّرَةً لِلْعَهْدِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ هُنَا؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا، وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَالْمَذْكُورُ هُنَاكَ كَأَنَّهُ مَذْكُورٌ هُنَا ; لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَالتَّطْهِيرُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ يَشْمَلُ التَّطْهِيرَ الْمَعْنَوِيَّ وَالْحِسِّيَّ، فَيُطَهِّرُهُ الطَّهَارَةَ الْحِسِّيَّةَ مِنَ الْأَقْذَارِ، وَالْمَعْنَوِيَّةَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي؛ وَلِذَا قَالَ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [٢٢ \ ٢٦] وَكَانَتْ قَبِيلَةُ جُرْهُمَ تَضَعُ عِنْدَهُ الْأَصْنَامَ تَعْبُدُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى فِيمَا كَانَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ مِنَ الْأَصْنَامِ عَامَ الْفَتْحِ، وَطَهَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْجَاسِ الْأَوْثَانِ وَأَقْذَارِهَا. كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ إِبْرَاهِيمَ هُنَا، وَقَالَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ [١٦ \ ١٢٣] وَالْمُرَادُ بِالطَّائِفِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الَّذِينَ يَطُوفُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ: الْمُصَلُّونَ؛ أَيْ: طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلْمُتَعَبِّدِينَ بِطَوَافٍ أَوْ صَلَاةٍ، وَالرُّكَّعُ: جَمْعُ رَاكِعٍ، وَالسُّجُودُ: جَمْعُ سَاجِدٍ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا لَفْظَةُ «شَيْئًا» مَفْعُولٌ بِهِ: لِـ «لَا تُشْرِكْ» ؛ أَيْ: لَا تُشْرِكْ بِي مِنَ الشُّرَكَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ: لَا تُشْرِكْ؛ أَيْ: لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا مِنَ الشِّرْكِ، لَا قَلِيلًا، وَلَا كَثِيرًا.

فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: لَا تُشْرِكْ بِي شِرْكًا قَلِيلًا، وَلَا كَثِيرًا، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ، وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: بَيْتِيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِإِسْكَانِهَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُؤَرِّخِينَ لَهُمْ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي قِصَّةِ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ لِلْبَيْتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَزْعُمُونَ، أَنَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ أَيَّامَ الطُّوفَانِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَدَرَجَ عَلَى ذَلِكَ نَاظِمُ عَمُودِ النَّسَبِ فَقَالَ:

وَدَلَّتْ إِبْرَاهِيمَ مُزْنَةٌ عَلَيْهِ ... فَهِيَ عَلَى قَدْرِ الْمِسَاحَةِ تُرِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>