فَمَعْنَى الْآيَةِ: النَّهْيُ عَنْ تَخْطِئَةِ الْمُتَأَخِّرِ الْمُتَعَجِّلِ كَعَكْسِهِ: أَيْ لَا يُؤَثِّمَنَّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَطَأٌ، لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِ جَمِيعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ أَعْنِي الطَّبَرِيَّ بَيَّنَ كَثِيرًا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: هُوَ مَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ الْحَاجَّ يَخْرُجُ مَغْفُورًا لَهُ، كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، أَوْ تَأَخَّرَ، وَقَدْ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ رَبْطَ نَفْيِ الْإِثْمِ فِي قَوْلِهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِالتَّعَجُّلِ وَالتَّأَخُّرِ فِي الْآيَةِ، رَبْطَ الْجَزَاءِ بِشَرْطِهِ يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّ نَفْيَ الْإِثْمِ إِنَّمَا هُوَ فِي التَّعَجُّلِ وَالتَّأَخُّرِ، وَلَكِنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي أَقَامَهَا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَارَ فِيهَا فِيهِ مَقْنَعٌ، وَتَشْهَدُ لَهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ بَعْدَ الْقُرْآنِ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ هَذِهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» ، وَقَوْلُهُ: لِمَنِ اتَّقَى، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ» ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، هُوَ الَّذِي اتَّقَى.
وَمِنْ كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّوِيلِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ مَا نَصُّهُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الْجَالِبُ لِلَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِمَنِ اتَّقَى وَمَا مَعْنَاهَا؟
قِيلَ: الْجَالِبُ لَهَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ مَعْنَى: حَطَطْنَا ذُنُوبَهُ، وَكَفَّرْنَا آثَامَهُ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مَعْنَى: جَعَلْنَا تَكْفِيرَ الذُّنُوبِ لِمَنِ اتَّقَى فِي اللَّهِ حَجَّهُ، وَتَرَكَ ذِكْرَ «جَعَلْنَا تَكْفِيرَ الذُّنُوبِ» اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّهُ كَأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ، فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ فَقَالَ: لِمَنِ اتَّقَى أَيْ هَذَا لِمَنِ اتَّقَى، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الصِّفَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ ; لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا، وَلَكِنَّهَا فِيمَا زَعَمَ مِنْ صِلَةِ قَوْلٍ مَتْرُوكٍ.
فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ مَا قُلْنَا: مِنْ أَنَّ مَنْ تَأَخَّرَ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى، وَقَامَ قَوْلُهُ: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ مَقَامَ الْقَوْلِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَعَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ مَعْنَى فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: أَنَّ الْحَاجَّ يُغْفَرُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ، فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ إِثْمٌ، فَغُفْرَانُ جَمِيعِ ذُنُوبِهِ هَذَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ أَكْبَرِ الْمَنَافِعِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَعَلَيْهِ فَقَدْ بَيَّنَتْ آيَةُ «الْبَقَرَةِ» هَذِهِ بَعْضَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الْحَجِّ» ، وَقَدْ أَوْضَحَتِ السُّنَّةُ هَذَا الْبَيَانَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا ; كَحَدِيثِ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute