وَاخْتُلِفَ فِيمَا يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ، فَلَوْ نَذَرَ مَثَلًا أَنْ يَحُجَّ، أَوْ يَعْتَمِرَ مَاشِيًا عَلَى رِجْلَيْهِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ الْمَشْيِ: جَازِ لَهُ الرُّكُوبُ لِعَجْزِهِ عَنِ الْمَشْيِ، وَإِنْ قَدِرَ عَلَى الْمَشْيِ: لَزِمَهُ.
وَفِي حَالَةِ رُكُوبِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَلْزَمُهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ عَاجِزٌ، وَاللَّهُ يَقُولُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [٢ \ ٢٨٦] ، فَقَدْ عَجَزَ عَمَّا نَذَرَ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ غَيْرُ مَا نَذَرَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُهُ هَدْيٌ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي ": وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ". وَلَا يُجْزِئُهُ الْمَشْيُ إِلَّا فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَشْيَ الْمَعْهُودَ فِي الشَّرْعِ: هُوَ الْمَشْيُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَإِذَا أَطْلَقَ النَّاذِرُ حَمَلَ عَلَى الْمَعْهُودِ الشَّرْعِيِّ. وَيَلْزَمُهُ الْمَشْيُ فِيهِ لِنَذْرِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ رَكِبَ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَأَفْتَى بِهِ عَطَاءٌ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتِ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَرْكَبَ، وَتَهْدِيَ هَدْيًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِيهِ ضَعْفٌ ; وَلِأَنَّهُ أَخَلَّ بِوَاجِبٍ فِي الْإِحْرَامِ فَلَزِمَهُ هَدْيٌ، كَتَارِكِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَا: يَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ، بَلْ وَيَرْكَبُ مَا مَشَى، وَيَمْشِي مَا رَكِبَ وَنَحْوَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَادَ، فَقَالَ: وَيَهْدِي، وَعَنِ الْحَسَنِ مِثْلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَالثَّانِيَةُ: كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ هَدْيٌ سَوَاءً عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ، أَوْ قَدِرَ عَلَيْهِ. وَأَقَلُّ الْهَدْيِ: شَاةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ مَعَ الْعَجْزِ كَفَّارَةٌ بِحَالٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّذْرُ مَشْيًا إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ هَدْيٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ مَعَ الْعَجْزِ شَيْءٌ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ " الْمُغْنِي ".
وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا يَلْزَمُ مَنْ نَذَرَ شَيْئًا، وَعَجَزَ عَنْهُ، فَهَذِهِ أَدِلَّةُ أَقْوَالِهِمْ نَقَلْنَاهَا مُلَخَّصَةً بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَجْدِ فِي " الْمُنْتَقَى " ; لِأَنَّهُ جَمَعَهَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ. أَمَّا مَنْ قَالَ: تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَدِ احْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute