للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ، حَدَّثَنَا زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ " قَالَ عِمْرَانُ: لَا أَدْرِي ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا بَعْدَ قَرْنِهِ: " ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ "، اهـ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي إِثْمِ الَّذِينَ لَا يُوفُونَ بِنَذْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَالَّذِينِ يَخُونُونَ، وَلَا يُؤْتَمَنُونَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ عِمْرَانَ هَذَا: فِيهِ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، وَهُوَ وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ النَّذْرِ مَنْهِيًّا عَنْهُ: كَمَا سَبَقَ فِي بَابِهِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الْإِقْدَامِ عَلَى النَّذْرِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى جَوَازِ نَذْرِ الْمَنْدُوبَاتِ إِلَّا الَّذِي يَتَكَرَّرُ دَائِمًا كَصَوْمِ يَوْمٍ مِنْ كُلِّ أُسْبُوعٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَنَقَلَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ. وَنُقِلَ نَحْوُهُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، وَجَزَمَ بِهِ عَنْهُمُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ. وَأَشَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى الْخِلَافِ عَنْهُمْ، وَالْجَزْمِ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ بِالْكَرَاهَةِ. وَجَزَمَ الْحَنَابِلَةُ بِالْكَرَاهَةِ، وَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ فِي أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فِي صِحَّتِهَا، وَكَرَاهَتُهُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ. اهـ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ ". وَجَزَمَ صَاحِبُ " الْمُغْنِي ": بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ نَهْيُ كَرَاهَةٍ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الظَّاهِرُ لِي فِي طَرِيقِ إِزَالَةِ هَذَا الْإِشْكَالِ، الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ أَنَّ نَذْرَ الْقُرْبَةِ عَلَى نَوْعَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: مُعَلَّقٌ عَلَى حُصُولِ نَفْعٍ كَقَوْلِهِ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَعَلَيَّ لِلَّهِ نَذْرُ كَذَا، أَوْ إِنْ نَجَّانِيَ اللَّهُ مِنَ الْأَمْرِ الْفُلَانِيِّ الْمَخُوفِ، فَعَلَيَّ لِلَّهِ نَذْرُ كَذَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي: لَيْسَ مُعَلَّقًا عَلَى نَفْعٍ لِلنَّاذِرِ، كَأَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَقَرُّبًا خَالِصًا بِنَذْرِ كَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَةِ، وَأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ النَّذْرَ فِيهِ لَمْ يَقَعْ خَالِصًا لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، بَلْ بِشَرْطِ حُصُولِ نَفْعٍ لِلنَّاذِرِ وَذَلِكَ النَّفْعُ الَّذِي يُحَاوِلُهُ النَّاذِرُ هُوَ الَّذِي دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْقَدَرَ فِيهِ غَالِبٌ عَلَى النَّذْرِ وَأَنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ.

أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ نَذْرُ الْقُرْبَةِ الْخَالِصُ مِنِ اشْتِرَاطِ النَّفْعِ فِي النَّذْرِ، فَهُوَ الَّذِي فِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>