وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [٦٥ \ ٨ - ١٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [١١ \ ١٠٢] وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [١١ \ ١٠٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [٢٢ \ ٤٥] الْعُرُوشُ السُّقُوفُ وَالْخَاوِيَةُ السَّاقِطَةُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:
كَانَ أَبُو حَسَّانَ عَرْشًا خَوَى ... مِمَّا بَنَاهُ الدَّهْرُ دَانٍ ظَلِيلُ
وَالْمَعْنَى: أَنَّ السُّقُوفَ سَقَطَتْ ثُمَّ سَقَطَتْ عَلَيْهَا حِيطَانُهَا عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَاتِ، وَالْقَصْرُ الْمَشِيدُ الْمَطْلِيُّ بِالشِّيدِ بِكَسْرِ الشِّينِ، وَهُوَ الْجِصُّ، وَقِيلَ الْمَشِيدُ: الرَّفِيعُ الْحَصِينُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [٤ \ ٧٨] أَيْ: حُصُونٍ رَفِيعَةٍ مَنِيعَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَيْ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا، وَكَمْ مِنْ بِئْرٍ عَطَّلْنَاهَا بِإِهْلَاكِ أَهْلِهَا، وَكَمْ مِنْ قَصْرٍ مَشِيدٍ أَخْلَيْنَاهُ مِنْ سَاكِنِيهِ، وَأَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا: تَهْدِيدٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِتِلْكَ الْقُرَى مِنَ الْعَذَابِ لَمَّا كَذَّبَتْ رُسُلَهَا.
تَنْبِيهٌ
يَظْهَرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يَدُلُّ عَلَى تَهَدُّمِ أَبْنِيَةِ أَهْلِهَا، وَسُقُوطِهَا وَقَوْلُهُ: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ أَبْنِيَتِهَا قَائِمَةً مُشَيَّدَةً.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الظَّاهِرُ لِي فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ: أَنَّ قُصُورَ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ، وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا مَا هُوَ مُتَهَدِّمٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَمِنْهَا مَا هُوَ قَائِمُ بَاقٍ عَلَى بِنَائِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا هَذَا الْجَمْعَ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَيْهِ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute