الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ هُودٍ: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ [١١ \ ١٠٠] فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ مِنْهَا قَائِمًا، وَمِنْهَا حَصِيدًا.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَجْرَاهَا عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ: أَنَّ الْقَائِمَ هُوَ الَّذِي لَمْ يَتَهَدَّمْ، وَالْحَصِيدَ هُوَ الَّذِي تَهَدَّمَ وَتَفَرَّقَتْ أَنْقَاضُهُ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُهُ:
وَالنَّاسُ فِي قِسْمِ الْمَنِيَّةِ بَيْنَهُمْ ... كَالزَّرْعِ مِنْهُ قَائِمٌ وَحَصِيدُ
وَفِي مَعْنَى الْقَائِمِ وَالْحَصِيدِ، أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَا هُوَ أَظْهَرُهَا، وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَجْهٌ آخَرُ لِلْجَمْعِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: «خَاوِيَةٌ» : خَالِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا مِنْ قَوْلِهِ: خَوَى الْمَكَانُ إِذَا خَلَا مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنَّ مَعْنَى: «عَلَى عُرُوشِهَا» : أَنَّ الْأَبْنِيَةَ بَاقِيَةٌ أَيْ: هِيَ خَالِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا مَعَ بَقَاءِ عُرُوشِهَا قَائِمَةً عَلَى حِيطَانِهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ: أَنَّ لَفْظَ الْقَرْيَةِ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى نَفْسِ الْأَبْنِيَةِ، وَتَارَةً عَلَى أَهْلِهَا السَّاكِنِينَ بِهَا، فَالْإِهْلَاكُ فِي قَوْلِهِ: أَهْلَكْنَاهَا، وَالظُّلْمُ فِي قَوْلِهِ: وَهِيَ ظَالِمَةٌ: يُرَادُ بِهِ أَهْلُهَا السَّاكِنُونَ بِهَا وَقَوْلُهُ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يُرَادُ بِهِ الْأَبْنِيَةُ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [١٢ \ ٨٢] وَقَالَ فِي أُخْرَى: حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا [١٨ \ ٧٧] .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ مَنْعَ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمَنْزِلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ: أَنَّ مَا يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ مَجَازَ النَّقْصِ، وَمَجَازَ الزِّيَادَةِ، لَيْسَ بِمَجَازٍ حَتَّى عِنْدَ جُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَأَقَمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَكَائِنٌ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْكَافِ، وَبَعْدَ الْأَلْفِ هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ، فَنُونٌ سَاكِنَةٌ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: وَكَأَيِّنْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْكَافِ بَعْدَهَا يَاءٌ مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ فَنُونٌ سَاكِنَةٌ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، فَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَقِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ صَحِيحَتَانِ.
وَأَبُو عَمْرٍو يَقِفُ عَلَى الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ يَقِفُونَ عَلَى النُّونِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: «أَهْلَكْتُهَا» بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَضْمُومَةِ بَعْدَ الْكَافِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَالْبَاقُونَ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْكَافِ، وَبَعْدَ النُّونِ أَلِفٌ، وَالْمُرَادُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ التَّعْظِيمُ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَقَرَأَ وَرْشٌ وَالسُّوسِيُّ وَ (بِيرٍ) بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute