للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الَّذِي أَحَسُّوا أَوَائِلَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [٤٠ \ ٨٤، ٣] وَهَذَا النَّوْعُ الْأَخِيرُ هُوَ الْأَنْسَبُ وَالْأَلْيَقُ بِالْمَقَامِ، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ الَّذِي هُوَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ، مَعْنَاهُ: لَيْسَ الْحِينُ الَّذِي نَادَوْا فِيهِ، وَهُوَ وَقْتُ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، حِينَ مَنَاصٍ، أَيْ لَيْسَ حِينَ فِرَارٍ وَلَا مَلْجَأَ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي عَايَنُوهُ.

فَقَوْلُهُ: وَلَاتَ هِيَ لَا النَّافِيَةُ زِيدَتْ بَعْدَهَا تَاءُ التَّأْنِيثِ اللَّفْظِيَّةِ كَمَا زِيدَتْ فِي ثَمَّ، فَقِيلَ فِيهَا ثَمَّتْ، وَفِي رُبَّ، فَقِيلَ فِيهَا رُبَّتْ.

وَأَشْهُرُ أَقْوَالِ النَّحْوِيِّينَ فِيهَا، أَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ وَأَنَّهَا لَا تَعْمَلُ إِلَّا فِي الْحِينِ خَاصَّةً، أَوْ فِي لَفْظِ الْحِينِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ، كَالسَّاعَةِ وَالْأَوَانِ، وَأَنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ يُحْذَفَ اسْمُهَا أَوْ خَبَرُهَا وَالْأَكْثَرُ حَذْفُ الْمَرْفُوعِ مِنْهُمَا وَإِثْبَاتُ الْمَنْصُوبِ، وَرُبَّمَا عُكِسَ، وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهَ وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

فِي النَّكِرَاتِ أُعْمِلَتْ كَلَيْسَ «لَا» ... وَقَدْ تَلِي «لَاتَ» وَ «إِنْ» ذَا الْعَمَلَا

وَمَا لِلَاتَ فِي سِوَى حِينٍ عَمَلْ ... وَحَذْفُ ذِي الرَّفْعِ فَشَا وَالْعَكْسُ قَلْ

وَالْمَنَاصُ مَفْعَلٌ مِنَ النَّوْصِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: نَاصَهُ يَنُوصُهُ إِذَا فَاتَهُ وَعَجَزَ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَيُطْلَقُ الْمَنَاصُ عَلَى التَّأَخُّرِ لِأَنَّ مِنْ تَأَخَّرَ وَمَالَ إِلَى مَلْجَأٍ يُنْقِذُهُ مِمَّا كَانَ يَخَافُهُ فَقَدْ وَجَدَ الْمَنَاصَ.

وَالْمَنَاصُ وَالْمَلْجَأُ وَالْمَفَرُّ وَالْمَوْئِلُ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: اسْتَنَاصَ إِذَا طَلَبَ الْمَنَاصَ، أَيِ السَّلَامَةَ وَالْمَفَرَّ مِمَّا يَخَافُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَارِثَةَ بْنِ بَدْرٍ:

غَمْرُ الْجِرَاءِ إِذَا قَصَرْتُ عِنَانَهُ ... بِيَدِي اسْتَنَاصَ وَرَامَ جَرْيَ الْمِسْحَلِ

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إِطْلَاقَ النَّوْصِ عَلَى الْفَوْتِ وَالتَّقَدُّمِ، وَإِطْلَاقِهِ عَلَى التَّأَخُّرِ وَالرَّوَغَانِ كِلَاهُمَا رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْمَنَاصَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مَعْنَاهُ الْمُنْطَبِقُ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ، أَنْ يَكُونَ صَاحِبَهُ فِي كَرْبٍ وَضِيقٍ، فَيَعْمَلُ عَمَلًا، يَكُونُ بِهِ خَلَاصَهُ وَنَجَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>