فَالْأَكِنَّةُ وَالْوَقْرُ وَالْحِجَابُ الْمَذْكُورَةُ إِنَّمَا جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُجَازَاةً لِكُفْرِهِمُ الْأَوَّلِ.
وَمِنْ جَزَاءِ السَّيِّئَةِ تَمَادِي صَاحِبِهَا فِي الضَّلَالِ، وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي ذَلِكَ.
وَالْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِمَعْنَى هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [٤ \ ١٥٥] .
فَقَوْلُ الْيَهُودِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ كَقَوْلِ كُفَّارِ مَكَّةَ: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ ; لِأَنَّ الْغُلْفَ جَمْعُ أَغْلُفَ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ غِلَافٌ، وَالْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ، وَالْغِلَافُ وَالْكِنَانُ كِلَاهُمَا بِمَعْنَى الْغِطَاءِ السَّاتِرِ.
وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَى الْيَهُودِ دَعْوَاهُمْ بِ (بَلِ) الَّتِي هِيَ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ، فِي قَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [٤ \ ١٥٥] .
فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (بِكُفْرِهِمْ) سَبَبِيَّةٌ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ هُوَ كَفْرُهُمْ، وَالْأَكِنَّةُ وَالْوَقْرُ وَالطَّبْعُ كُلُّهَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ.
وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [٦٣ \ ٣] ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَطُبِعَ) سَبَبِيَّةٌ، أَيْ ثُمَّ كَفَرُوا، فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْكُفْرِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ.
وَكَذَلِكَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ فَهِيَ سَبَبِيَّةٌ أَيْضًا، أَيْ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الطَّبْعِ (لَا يَفْقَهُونَ) أَيْ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ بَرَاهِينِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ شَيْئًا.
وَذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الطَّبْعَ وَالْأَكِنَّةَ يَئُولُ مَعْنَاهُمَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا يَنْشَأُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ عَدَمِ الْفَهْمِ.
لِأَنَّهُ قَالَ فِي الطَّبْعِ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ.
وَقَالَ فِي الْأَكِنَّةِ: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [٦ \ ٢٥] أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَوْ لِأَجْلِ أَلَّا يَفْقَهُوهُ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ.