للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدَّمْنَا مَعَانِيَ إِطْلَاقِ الرَّحْمَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا الْآيَةَ [٣٥ \ ٢] .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ يَعْنِي أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِمْ أَمْرَ مَعَايِشِهِمْ وَحُظُوظَهُمْ فِي الدُّنْيَا، بَلْ تَوَلَّى هُوَ - جَلَّ وَعَلَا - قِسْمَةَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، فَجَعَلَ هَذَا غَنِيًّا وَهَذَا فَقِيرًا، وَهَذَا رَفِيعًا وَهَذَا وَضِيعًا، وَهَذَا خَادِمًا وَهَذَا مَخْدُومًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِمْ حُظُوظَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُحَكِّمْهُمْ فِيهَا، بَلْ كَانَ - تَعَالَى - هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا بِمَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، فَكَيْفَ يُفَوِّضُ إِلَيْهِمْ أَمْرَ إِنْزَالِ الْوَحْيِ حَتَّى يَتَحَكَّمُوا فِيمَنْ يَنْزِلُ إِلَيْهِ الْوَحْيُ؟

فَهَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ وَلَا يَظُنُّهُ إِلَّا غَبِيٌّ جَاهِلٌ كَالْكُفَّارِ الْمَذْكُورِينَ.

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [٤٣ \ ٣٢] التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّهُ مِنَ التَّسْخِيرِ.

وَمَعْنَى تَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ - خِدْمَةُ بَعْضِهِمُ الْبَعْضَ، وَعَمَلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ; لِأَنَّ نِظَامَ الْعَالَمِ فِي الدُّنْيَا يَتَوَقَّفُ قِيَامُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَمِنْ حِكْمَتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - أَنْ يَجْعَلَ هَذَا فَقِيرًا مَعَ كَوْنِهِ قَوِيًّا قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ، وَيَجْعَلَ هَذَا ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ - تَعَالَى - يُهَيِّئُ لَهُ دَرَاهِمَ يُؤَجِّرُ بِهَا ذَلِكَ الْفَقِيرَ الْقَوِيَّ، فَيَنْتَفِعُ الْقَوِيُّ بِدَرَاهِمِ الضَّعِيفِ، وَالضَّعِيفُ بِعَمَلِ الْقَوِيِّ ; فَتَنْتَظِمُ الْمَعِيشَةُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَهَكَذَا.

وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ - جَاءَتْ كُلُّهَا مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.

أَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْقَصُ شَرَفًا وَقَدْرًا مِنْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي «ص» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي الْآيَةَ [٣٨ \ ٨] .

فَقَوْلُ كُفَّارِ مَكَّةَ: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا مَعْنَاهُ إِنْكَارُهُمْ أَنْ يَخُصَّهُ اللَّهُ بِإِنْزَالِ الْوَحْيِ مِنْ بَيْنِهِمْ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْوَحْي مِنْهُ، لِكَثْرَةِ مَالِهِ وَجَاهِهِ وَشَرَفِهِ فِيهِمْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>