بِقَتْلِ كَعْبٍ، فَقَتَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ غِيلَةً، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ اطَّلَعَ مِنْهُمْ عَلَى خِيَانَةٍ حِينَ أَتَاهُمْ فِي دِيَةِ الْمُسْلِمَيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ مُنْصَرَفَهُ مِنْ بِئْرِ مَعُونَةَ، فَهَمُّوا بِطَرْحِ الْحَجَرِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَمَّا قُتِلَ كَعْبٌ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَسِيرَةِ إِلَيْهِمْ، وَطَالَبَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَمْهَلُوهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ؛ لِيَتَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ، وَلَكِنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ سِرًّا: لَا تَخْرُجُوا مِنَ الْحِصْنِ، وَوَعَدَهُمْ بِنَصْرِهِمْ بِأَلْفَيْ مُقَاتِلٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَمُسَاعَدَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَحُلَفَائِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ، أَوِ الْخُرُوجِ مَعَهُمْ، فَدَرَّبُوا أَنْفُسَهُمْ، وَامْتَنَعُوا بِالتَّحْصِينَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ، فَحَاصَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً.
وَقِيلَ: أَجْمَعُوا عَلَى الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا لَهُ: اخْرُجْ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِكِ، وَيَخْرُجُ إِلَيْكَ ثَلَاثُونَ مِنَّا؛ لِيَسْمَعُوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوا آمَنَّا كُلُّنَا فَفَعَلَ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَفْهَمُ وَنَحْنُ سِتُّونَ؟ اخْرُجْ فِي ثَلَاثَةٍ، وَيَخْرُجُ إِلَيْكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا فَفَعَلُوا فَاشْتَمَلُوا عَلَى الْخَنَاجِرِ، وَأَرَادُوا الْفَتْكَ فَأَرْسَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ نَاصِحَةٌ إِلَى أَخِيهَا، وَكَانَ مُسْلِمًا فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَرَادُوا، فَأَسْرَعَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَارَّهُ بِخَبَرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ غَدَا عَلَيْهِمْ بِالْكَتَائِبِ فَحَاصَرَهُمْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَآيَسُوا مِنْ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ ابْنُ أُبَيٍّ، فَطَلَبُوا الصُّلْحَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا الْجَلَاءَ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ أَهْلِ ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ عَلَى بَعِيرٍ مَا شَاءُوا مِنَ الْمَتَاعِ إِلَّا الْحَلْقَةَ، فَكَانُوا يَحْمِلُونَ كُلَّ مَا اسْتَطَاعُوا وَلَوْ أَبْوَابَ الْمَنَازِلِ، يُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ وَيَحْمِلُونَ مَا اسْتَطَاعُوا مَعَهُمْ.
وَقَدْ أَوْرَدْنَا مُجْمَلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا تَدُورُ مَعَانِي هَذِهِ السُّورَةِ كُلُّهَا، وَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِسَالَةِ أُصُولِ التَّفْسِيرِ: إِنَّ مَعْرِفَةَ السَّبَبِ تُعِينُ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّفْسِيرِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مَدَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ غَدْرٍ، وَمَا سَلَكُوا مِنْ أَسَالِيبِ الْمُرَاوَغَةِ فَمَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ.
وَالَّذِي مِنْ مَنْهَجِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَضْوَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ، حَيْثُ أَسْنَدَ إِخْرَاجَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ وُجُودِ حِصَارِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute